تروتسكيون و ماويون و أرناؤط من المحيط إلى الخليج

 


 

 

عفو الخاطر:

رب شرارة اشعلت السهل نارَ
ماو تسي تونغ


لم أشأ أن اكتب عن مي غصّوب فور سماعي لخبر رحيلها المفاجئ، إذ أن كثرا سيسرعون لنعيها. لقد أحزنني ذلك حزنا فاق طاقتي على الكتابة و أخلدني إلى كآبة و استكانة لم آلفهما من قبل و لا عهد لي بهما في أحلك الظروف و أشدها ظلمة. أثرت التريث أيضا حينما سمعت بوفاة الزميل جوزيف سماحة في لندن، و هو الذي طار إلى هناك ليواسي قرينها الزميل حازم صاغية في مصابه و مصاب عارفيها و عارفي فضلها و الذين أصابهم شيئا من عطائها الأدبي و الفني. أحسست أن الذين سيكتبون عنها، سينعون صاحبة المكتبة و مؤسسة دار الساقي. إلا إن مي لم تك ورّاقة فحسب. مكتبتها و دار النشر كانتا رسالة بدأتهما و هي بعد صبية هبطت من قرية بالقرب من بكفيا معقل "الكتائب اللبنانية" إلى بيروت، باريس الشرق و تاج المدائن، و وكر الجواسيس، و خندق الثوار، و أتيلييه التشكيليين، و مطابع المؤلفين و الناشرين بأية لغة شئت، و مقهى و حان العقائديين من كل صنف و لون و جنس و ملة و نحلة. رأيتهم يثرثرون في المقهى و الحان و الخان – أكان ذلك المقهى و تلك الحانة و ذاك الخان في البرج و ساحة رياض الصلح أو في الحمرا و رأس بيروت و الروشة و الزيتونة - و يختصمون و يصطلحون و يتحاشى بعضهم بعضا ثم يقهقهون بصوت عالي عند الانصراف على أمل لقاء جديد يصطرعون فيه و يتخاصمون مرة بعد مرة، يلوكون فيه و يعلكون – في غالب الأحوال - سفسطة و سفاسف الأمور. كل ذلك في مطلع سبعينيات القرن الماضي. لم تك مي من هذا البعض. لكنها أيضا كانت تبحث عن صراع ما وتغيير ما، بطريقة ما، بعمل ما له عائد وليس له مردود.

في بداية العام 1973 - و كان الشتاء قارسا - شهد فندق البوريفاج في محلة الرملة البيضاء ببيروت انعقاد مؤتمر (الجبهة العربية المشاركة في الثورة الفلسطينية). و للبوريفاج تاريخ ملئ بأحداث جمة متضادة، فقد كان معقلا للحركة الطالبية و الوطنية و التقدمية اللبنانية تناقش فيه همومها و هموم الآخرين و أشجانهم، و تعقد فيه مؤتمراتها. كما كان لفترة طويلة مقرا لأحد أجهزة الاستخبارات السورية حتى انسحاب القوات السورية بعيد مقتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير العام 2006.

أراد الزعيم الوطني اللبناني كمال جنبلاط و قيادات الفصائل الفلسطينية حشدا يتصدى لدعوات بدأت تتصاعد من اليمين اللبناني متذمرة من تنامي النفوذ الفلسطيني و اليساري هناك. و في هذا المؤتمر برز و اعتمد لأول مرة تعبير "القوى الانعزالية اللبنانية" كمرادف لأحزاب اليمين اللبناني و على وجه الخصوص حزب الكتائب اللبنانية الذي كان يتزعمه الشيخ بيير الجميل، و ليلحق بهذا الوصف فيما بعد حزب الوطنيين الأحرار بقيادة رئيس الجمهورية الأسبق، كميل شمعون و إلى درجة أقل حزب الكتلة الوطنية الذي انحسر نفوذه الآن بعد وفاة زعيمه العميد ريمون إده.

تنادى إلى المؤتمر اليسار العربي الرسمي، إن صح القول، و أحزاب المعارضة المعتمدة لدى هذا اليسار الرسمي أو عند الكتلة الاشتراكية، و وقتها كانت لها شوكة و بأس. و دعيت إليه أحزاب و قوى يسارية و ثورية عالمية اخرى، لعل أبرزها قوى الثورة الفيتنامية التي كانت في تلك الحقبة منارة تهدي سفن المحاربين ضد الإمبريالية العالمية. و كان لآخرين وجود خجول و من بينهم حكومات (صديقة) تمثلت بسفرائها كالهند.

كان الحزب الشيوعي السوداني آنذاك يضمد جراحه بعد أن غدر به كثيرون و من بينهم رفاق الدرب و زملاء الكفاح، فتمثل في المؤتمر باثنين من قيادة اتحاد المعلمين، كانا أيام المذبحة في يوليو/تموز العام 1971 خارج السودان، أحدهما الأستاذ إدريس عوض الكريم(جرير)، شاعر معهد المعلمين العالي، يوم عمادة البروفسور محمد التوم التيجاني، و قبل أن يصبح المعهد كلية للتربية. وإدريس قضى بعض شيخوخته في اسمرا التي تولت معظم مقاليد السلطة فيها البروليتاريا الرثة، وفي قول آخر، الحرافيش الذين أجهضوا حلما جميلا وأخمدوا مشاعل ثورة رائعة وأحالوا البلاد إلى سجن يفوق معتقل غوانتانمو وزنازين أبي غريب سوءا، ونكلوا بالعباد أيما تنكيل. فغالبية القابضين على مقاليد الأمور هناك اليوم هم أعراب ارتريا، الذين هم اشد كفرا و نفاقا، لو تعلمون! استطاع إدريس أثناء وجوده في بيروت أن ينشر عن طرق "دار ابن خلدون" وثائق للحزب الشيوعي السوداني و "الماركسية و قضايا الثورة السودانية" و ديوان شعر.

كان للمؤتمر نجومه المتألقة. فإلى جانب كمال جنبلاط و ياسر عرفات، كان الشاعر و القائد الفلسطيني كمال ناصر محط الأنظار، تتحلق حوله حسان هذا المهرجان السياسي – و هن كثر، و هو الأعزب حتى الإدمان – و قد اغتيل بعد هذا الاحتشاد العالمي بأسابيع قليلة في غارة شارع فردان التي قام بها رجال صاعقة إسرائيليون يقودهم إيهود باراك الذي أصبح رئيسا لوزراء الدولة العبرية فيما بعد. و اغتيل معه قائدان فلسطينيان آخران هما محمد يوسف النجار (أبو يوسف) و كمال عدوان.

لكن خارج أروقة المؤتمر وغرف البوريفاج وقاعاته الفسيحة ومقهاه ومطاعمه، كانت هناك مجموعات يسارية اخرى – لبنانية وغير لبنانية – لم توجه لها الدعوة ولم تكن معنية به. ومن هذه المجموعات أتباع الأممية الرابعة "التروتسكيون". أعضاء هذه المجموعات اليسارية كانت لهم طريقتهم (اللبنانية) في إتّباع المذهب و تفسيرهم الخاص للعقيدة و وسائلهم الفريدة في العمل و التبشير.

عانت الحركة التروتسكية من انقسامات حادة و عميقة و متتابعة منذ نشأتها في بداية أربعينيات القرن العشرين. و رغم إن مجموعة الأرجنتيني خوان بوسادس التي ما انفكت تدعو إلى الثورة الدائمة و المتزامنة في أرجاء الأرض كافة، كانت أكثر المجموعات حضورا في الجبهة الإعلامية، إلا إن تأثيرها التنظيمي لم يكن في قوة جماعة "الأمانة العامة الموحدة للأممية الرابعة" التي كان ميشيل بابلو من أهم قادتها. و إلى هذه الجماعة انتمى "التجمع الشيوعي الثوري" اللبناني الذي تأسس في العام 1970. و ربما كانت مي غصوب و رفيق الطفولة و الصبا و الدرب الطويل، التشكيلي أندريه غاسبار من مؤسسيه أو من أوائل العناصر التي انتمت إليه. و كما شاركها أندريه هذا التنظيم اشترك معها في تأسيس مكتبة الساقي ثم دار النشر التي حملت نفس الاسم.

كنت أترك المؤتمر و أهله و أذهب إلى جوار مكان إقامتي عند أسوار الجامعة الاميريكية. ففي مطاعم فيصل و أنكل سام و مروش و مقاهي أزقة الحمرا، و في مستديرة الكولا و حواري جمهورية الفاكهاني و الدكوانة و النبعة تجد المناضلين المهمشين من فلسطينيين و لبنانيين و يابانيين و الحالمين من أميركا اللاتينية و الثوار الجوالة المتجولين في مختلف بقاع الأرض، و قلة قليلة من الأوربيين. رواد تلك الأماكن هم خليط من قوميين عرب مزجوا الماركسية بأفكار القومية العربية وتيار يساري عربي هائم بين هذه وتلك، فيهم ناجي علوش وحنا مقبل (1) وحوارييهما من يسار حركة فتح، وتروتسكيين وماويين وجيفاريين، وغيرهم ممن يأبى كل هؤلاء أو ربما يمسك بهم جميعا. يا لبيروت السبعينيات الأولى... كيف اتسعت لنا جميعا و أنت تمرحين!

و حينما اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية رفض التجمع الشيوعي الثوري أن يخوض مع الخائضين في تلك الأوحال، بل ظل يصدر نقدا مريرا لقيادات "الحركة الوطنية اللبنانية" و فصائل المقاومة الفلسطينية إلى جانب إدانته القاسية لليمين اللبناني المتمثل في صفوة الموارنة "الانعزاليين". هذا الموقف النقدي عرّض أعضاء التجمع إلى مضايقات الفصائل الفلسطينية و لا سيما حركة فتح، و إلى "إرهاب" ياسر عرفات. لهذا التنظيم موقف مشهود و فريد دون اللبنانيين جميعا. فهو القوى السياسية الوحيدة التي نادت جهارا نهارا بوحدة اندماجية بين لبنان و سورية تكون فيه وحدات الجيش السوري المتواجدة في لبنان رأس رمح المقاومة و التحرير. غير إن هذا الموقف لم يشفع له لدى الحكومة السورية. الا ان عناصر هذا التجمع لم تقف موقفا سالبا مما يجري على الأرض، بل شاركت في تخفيف الآلام بجهودها المتواضعة ووفق امكاناتها الضعيفة. إذ افتتحت مي و أندريه مستوصفا (شفخانة) في حي النبعة البيروتي الذي كان في عين العاصفة إبان الأشهر الأولي لاندلاع الحرب. كانا يأتيان بالأطباء و الطبيبات و الممرضين و الممرضات و الأدوية من بين خطوط النار و تحت وابل من الرصاص و القنابل لمداواة الجراح و تسكين الألم و تطبيب سكان هذا الحي الفقير. ليس هذا فحسب، بل وزعا علب الحليب للأمهات المرضعات و الأطفال الصغار. لم يسألا عن انتماء أو جنسية من كانا يقومان بخدمته بتفانٍ وإثار منقطع النظير. و بذلا وقتا و جهدا في مفاوضات مضنية لإطلاق سراح بسطاء الناس الذين اسرهم هذا الفريق أو ذاك على الهوية أو المذهب

و لان مي رفضت هذا الجنون المطبق الذي حاق بلبنان الاخضر الجميل، و أشاحت بوجهها بعيدا عن السلاح و حوار الرصاص، كادت أن تذهب ضحية العنف الاهوج حينما اصابت قنبلة سيارتها و هي في طريقها إلى المستشفى لتنقذ بعض الجرحى. ذهب الانفجار بإحدى عينيها و خلّف جراحا بليغة في جسدها النحيل و هي لم تزل في الثالثة و العشرين من عمرها. أما أندريه فقد نجا بأعجوبة. جرحت ركبته و لكن قتل اثنان كانا يقفان بالقرب منه (الحجّاز ليه عكّاز) كما يقول أهلنا في السودان.

غادرت مي و أندريه بيروت إلى باريس للعلاج. كان سفرهما إلى حين و لكنها امتدت بمي إلى بقية العمر القصير. فقد رحلت في الرابعة والخمسين وهي في أوج العطاء الذي كانت تقدمه منذ نعومة أظفارها للجميع. ذهبت إلى باريس و لكنها استقرت في لندن. و قد تحول مستوصف ذاك الحي البيروتي الفقير إلى مكتبة ثم دار نشر قدم للثقافة الإنجليزية و العربية بلسما و زادا للعقول و النفوس. فقد اعترفت الصحف البريطانية بفضل دار الساقي في تطور الأدب الإنجليزي حينما نشرت لأدباء شباب ممن كتبوا بهذه اللغة، و أنتجت ترجمات رفيعة لأدباء من مختلف أنحاء العالم من بينهم الألباني إسماعيل قادري و غيره. و فوق هذا و ذاك كانت مي نحاتة مبدعة و كاتبة مسرحية رائدة و أديبة صادقة العبارة و منافحة عن قضايا المرأة بجرأة و حكمة و رؤية ثاقبة. و لان مي كذلك، كان لها أصدقاء من كل المشارب و الأجناس و الألوان و الأديان و العقائد و الملل و النحل و الأعمار. و لم تكن تكلفة صداقة مي باهظة. عربونها تحية، أو كلمة، أو جملة مفيدة كانت أو غير مفيدة، أو عبارة في موقف حافلة أو صالة انتظار. كانت مي مثل بيروت تحتمل الجميع برقة و أناقة و دعة و حنان.

لم يكن للتروتسكيين انتشار واسع في بلاد العرب، بل كان محدودا، و ما زال، و كذلك الجيفاريون، أما أنصار أنور خوجه الذي حكم بلاد الارناؤط، (ألبانيا) فلم أعرف لهم وجودا إلا بين عدد محدود في تونس و المغرب. كانت مجموعة رشيدة النيفر أهم تلك المجموعات التي زارت "ألبانيا أنور خوجه" و أتت مبهورة بالتجربة، حتى بعد القضاء على مهندس التحالف الألباني – الصيني، محمد شيخو الذي كان رئيسا للوزراء. و حتى اللحظة لم اعرف ما الذي جعل نخبة يشع الذكاء من كل أطرافها تنجذب الى تجربة بائسة مثل التجربة الألبانية. سألت رشيدة كثيرا عن الأمر، لكنني لم أجد في حديثها عن ألبانيا الفائدة التي كنت اجنيها من كل حديث لي معها، و قد عملنا سويا في اتحاد الصحافيين العرب، بعد انتخابها في مؤتمر بغداد العام 1983 نائبا للرئيس و انتخابي أمينا عاما مساعدا.

عملت رشيدة(2) في الصحافة التونسية الناطقة بالفرنسية، و انتخبت في مطلع الثمانينات أول و أخر امرأة لمنصب نقيب الصحافة في تونس و في العالم العربي و أفريقيا بأسرها و حتى إشعار آخر، و كذلك أول و أخر نائب رئيس لاتحاد صحافي إقليمي و حتى إشعار آخر أيضا.

رشيدة واضحة الرؤية، لا تخشى في الحق لومة لائم؛ تقول رأيها عاليا مدويا صريحا حينما يخيم الصمت على الرجال و كأن على رؤوسهم الطير. حاول اتحاد الصحافيين العالمي الذي كان يتخذ من براغ مقرا له أن يستميل جمعية الصحافيين التونسيين إليه و يلحقها بعضويته. فقد كانت الجمعية هي التنظيم الصحافي العربي الوحيد الذي ينتمي الى اتحاد الصحافيين الدولي الذي يتمركز في بروكسيل. كان بين الإتحادين منافسة حادة أيام الحرب الباردة. عرفت قيادة براغ بميول النقيب النيفر اليسارية و أعضاء لجنتها التنفيذية و من بينهم كمال الطريفي (3) فسارعوا ليهتبلوا الفرصة و قد أعيتهم الحيل مع من سبقها الى كرسي الرئاسة في الجمعية التونسية. لكنها خيبت أمالهم، و كنت شاهدا على تلك المحاولات في صوفيا و موسكو. قالت لهم إن العرب في حاجة الى احد في بروكسيل يدافع عن قضاياهم و عن حريات الصحافيين العرب الذين تمنع العلاقات السياسية براغ و موسكو عن الدفاع عنهم. و في موسكو زجرت ممثلي النقابات الأفريقية و ممثل اتحاد صحافي جنوب أفريقيا (المؤتمر الوطني الإفريقي) – أيام الابرتايد – الذي دافع عن الاحتلال الإثيوبي لإرتريا بضراوة كفت ممثلي إثيوبيا مؤنة الكلام. و بزوال أنور خوجة لم يعد للارناؤط تأثير، بل بقيت منه تجربة مرة و ذكريات مريرة.

انقسام الحركة الشيوعية في مطلع الستينيات و امتداد آثار هذا الانقسام الى السبعينيات، كانت له أثار مرعبة و مخيفة في العالم الثالث. جهدت الصين أن تجد لها ركائز في آسيا و أفريقيا. و لكن هذا الجهد أفضى الى مآسي مؤلمة و أحزان جمة. لم يكن تأثيرهم في السودان ذا بال مع وجود حزب شيوعي واسع التجربة وله استقلال نسبي عن قيادة الحركة الشيوعية العالمية في موسكو وقيادة حصيفة أصيلة خلاقة متفانية عليمة تمثلت في عبد الخالق محجوب وصحبه الذي احترمه وقدره خصومه قبل مريديه، إلا زمرة جعفر نميري التي لا أجد وصفا لها. و رغم ذلك كان هنالك وجود للماويين في السودان و إن سرعان ما تفرقوا أيدي سبأ و صاروا خشوم بيوت. و قد استقر بعض السودانيين في بكين، و منهم محمد خير الذي كان من قيادات اتحاد كتاب آسيا و أفريقيا (جناح الصين). وذهب الزميل حامد وافي ليعمل في القسم الصيني لمنظمة التضامن الآسيوي الإفريقي، لكنه عاد الى السودان في سبعينيات القرن الماضي وعمل في وكالة السودان للأنباء الى أن رحل. و قد جمعتني بالأستاذ عوض حسن أحمد – و كان من أنصار جناح أحمد جبريل في الحزب الشيوعي، القيادة الثورية - صداقة و ود. فهو شاعر رقيق غنى له عبدالعزيز محمد داود أكثر من قصيدة. ولو سمع أحد ما عوضاَ يغني دون أن يراه لظنه (السواد الأعظم) كما أطلق عبد العزيز على نفسه. و في منزل عوض حسن احمد بالخرطوم بحري التقيت أحمد جبريل و القائد الإرتري، إدريس عثمان قلايدوس، الذي عاد لتوه من زيارة للصين يومذاك. أسفرت زيارته تلك عن صفقة أسلحة و تدريب عدد من الثوار على "الحرب الشعبية طويلة الأمد". رأي الصينيون يومئذ أن يكون أحمد جبريل احد قنوات الاتصال بالثورة الإرترية في الظروف الطارئة، لأسباب إرترية أو سودانية!

إلا أن ذكاء الثعلب العجوز، هيلي سيلاسي، أجهض تلك العلاقات. فبتجربته السياسية الطويلة قطع حبل الإمداد الصيني سريعا حينما اعترف بالصين الشعبية، التي لم تعد من بعدها تسمح لأحد من الإرتريين بالاقتراب من أبواب سفاراتها. كانت شحنة سلاح يتيمة و خمسة من الثوار تدربوا هناك أذكر منهم اسياس افورقي (4) و رمضان محمد نور(5) و سعيد صالح (6)). اثر التجربة الصينية كان عميقا عند قيادة الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا بقيادة رمضان محمد نور و اسياس افورقي. فمعركة مصوع الأولى قبل تحريرها أسفرت عن مذبحة راح ضحيتها عدد كبير من خيرة المقاتلين الإرتريين شاركت في حصدهم الطائرات الكوبية. ذلك ان القيادة الإرترية طبقت أسلوب حرب الموجات الصيني. قد يلائم هذا التكتيك الحربي الصين بسبب عدد سكانها الضخم، إلا انه لا يصلح لشعب لا يتجاوز عدد سكانه الملايين الثلاثة.

رب شرارة أشعلت السهل نارا. في اندونيسيا كانت المصيبة اكبر. اخطأ القائد العمالي لقمان و أعضاء قياديين في الحركة العمالية الاندونيسية و الحزب الشيوعي و اليسار عموما التقدير، فجاء انقلاب سوهارتو. ذهب في الهولوكوست الاندونيسي أكثر من ثلاثة ملايين قتيل. وصمت الغرب صمت القبور عن تلك المذابح إن لم تكن من تدبيرهم. لم يحرك الغربيون ساكنا حينما كان الجيش الاندونيسي يبيد قرى عن بكرة أبيها لم يسمع أهلها بان عاصمة بلادهم جاكرتا ناهيك عن ماركس و انجلز و لينين و ماو.

أما الرفيق كيم ايل سونغ فقد اكتفى بجمعيات الصداقة التي كانت ترسل له في أعياده التي لا تحصى و لا تعد برقيات تهنئة (للقائد الفذ و المحبوب و المبجل من أربعين مليون كوري). قال ذات مرة و هو يصف الصراع السوفيتي – الصيني: "البعض يميل قليلا الى اليمين و البعض يميل قليلا الى اليسار، و لكننا نجلس على كرسي الماركسية الصائب و الصحيح). غير أن معظم الزوارق بعد أن تمايلت يمينا ويسارا انقلبت وغرقت في لجة يم عميق.

حينما انقسم الحزب الشيوعي العراقي وخرج من بين صفوفه بعض المثقفين ليؤسسوا "الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية" بزعامة عزيز الحاج، تبنوا الخط الصيني المتشدد ولجأوا الى الاهوار في جنوب العراق لكي يبدأوا حرباً شعبية تنتهي بانتصار الشغيلة وتحرير بغداد وبقية انحاء العراق. أرادوا أن يخوضوا في مستنقعات الاهوار تلك الحرب وليطهروا أنفسهم من رجس البرجوازية واثم الاستكانة الى وسائل تعبئة الجماهير وتنظيم الحركة العمالية والفلاحين. من بين هؤلاء كان الشاعر العراقي الراحل مظفر النواب الذي التقيته لفترة وجيزة في العام 1970 وهو في طريقه الى الأراضي الارترية المحررة. لم يكن مظفر معروفاً خارج العراق، بل خارج دوائر معينة في العراق. جاء الى السودان ليلتحق بالثورة الارترية لكي يتعلم من تجربتها في الكفاح المسلح ما يعينهم في حربهم التي قاموا بشنها في أهوار العراق، ومن ثم يعود للالتحاق برفاقه هناك وهو مدجج بتجربة ثورية ناضجة. كان مظفر وقتذاك رساماً تشكيلياً، جلب معه بعض كراسات الرسم والاقلام الملونة فقام برسم بعض الاعمال التي لم نجد لها أثراً فيما بعد. لم يبق طويلا في ارتريا اذ عاد ادراجه سريعاً. ربما كانت تجربة الثورة الارترية فوق طاقته واحتماله. وعندما عاد الى العراق عن طريق الاحواز وجد الرفاق يتفاوضون مع صدام حسين على الاستسلام والقاء السلاح. المثقفون الحالمون غير قادرين على مشاق حرب الغوار والكفاح المسلح. عادوا كلهم الى بغداد حيث امضوا فترة قصيرة في الحبس ثم تفرقوا. أصبح عزيز الحاج مندوباً للعراق في اليونسكو لعقدين من الزمان أو يزيد، بعدها انشق على النظام وفضل البقاء في باريس يكتب وينشر، لكنه لم يقف الا برهة على تجربة الاهوار!

أما مظفر فقد لمع اسمه شاعراً مجيداً بالمحكية العراقية أولاً والعربية الفصحى ثانياً. نشر ديوانه "الريل وحمد" وقصيدته الأشهر "براءة" فأثار موجة من اللغط في أوساط العراقيين، الا انهما حملاه الى عرش شاعر المحكية العراقية بلا منازع، ثم نشر قصائده بالفصحى التي ذم فيها القيادات العربية فأفسحت له مكاناً في صدارة شعراء اليسار العربي. عاد مظفر الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي لفترة وجيزة ثم هجره وجعل يتجول في العواصم العربية حتى وافته المنية في الدوحة عاصمة بلاد لم يكن الا من مناهضي نظامها! التقيت به في دمشق مرات كثيرة؛ في مقهى الروضة احياناً وفي دور أصدقاء سوريين من بينهم العقيد المقداد، أحد وجهاء حوران وممن اعفاهم قادة "الحركة التصحيحية" من الخدمة العسكرية واحالهم الى التقاعد.

وفي الصومال خرج عدد من الشيوعيين لا يتعدى أصابع اليد عن الحزب الشيوعي الصومالي متبنين الخط الصيني. كان من بينهم محمد معو الذي أسس مجلة شهرية تصدر باللغة العربية أطلق عليها اسم "الفجر الجديد". كان ذلك قبل انقلاب سياد بري في العام 1969 حينما اغتيل الرئيس المنتخب عبد الرشيد علي شارماركي، بل قبل مضي 24 ساعة من اغتياله. كان في الصومال قوتان مسلحتان تتوجس كل منها خيفة من الأخرى. كان الجيش الصومالي بقيادة سياد بري يتلقى تسليحه وتدريبه من الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية الأخرى، وكانت قوات الشرطة بقيادة الجنرال جامع قورشيل تتلقى السلاح الخفيف والثقيل من المانيا الغربية التي كانت تقوم أيضاً بتدريب عناصرها. زودت المانيا الغربية قوات الشرطة الصومالية بالمدافع والمدرعات فضلاً عن الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. أراد الشرق والغرب احداث توازن في القوة الضاربة لضمان بقاء الصومال دولة غير منحازة، الا أن ذلك ذهب ادراج الرياح في العام 1969. اتفق الجيش والبوليس على الانقلاب وبعدها بفترة وجيزة تخلص سياد بري من منافسه ونائبه في مجلس قيادة الثورة، الجنرال قورشيل وأنشأ الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي، الا أنه سجن زعيم الحزب الشيوعي لعقدين ونيف ولم يخرج من السجن الا بعد زوال نظام سياد بري. لم تستمر الفجر الجديد طويلاً. أصدرت اعداداً قليلة. كان محمد معو يلتمس الكتابة فيها من اقصى اليسار ومن الثوار وممن يكتب العربية. نشر لي قصيدة لما كنت أقرض الشعر أحياناً. حملها اليه القائد الارتري، ادريس قلايدوس، وذلك تشجيعاً لمجلة تصدر بالعربية في بلاد كانت فيه اللغة يتيمة مشردة. توقفت المجلة وتفرق الرفاق بُعيد الانقلاب، وطويت صفحة شيعة ماو في بلاد الصومال وما خلفها وأمامها.

========================

(1) اغتيل الأمين العام لاتحاد الصحافيين العرب وصاحب ورئيس تحرير "القدس برس"، حنا مقبل، خارج منزله في نقوسيا التي لجأ إليها بعد اشتداد أوار الحرب في لبنان وفشل عدة محاولات لاغتياله في بيروت. لم يعرف من اغتاله حتى اليوم.

(2) هي من أسرة النيفر المشهورة بعلمائها الأفاضل الذين يتوزعون بين جامع الزيتونة بتونس و جامع عقبة بن نافع في القيروان و منهم الشيخ محمد النيفر صاحب "عنوان الأريب" و الدكتور أحميدة النيفر الناشط الفخيم في الحوار الاسلامي - المسيحي، و الصديق البحاثة الشاذلي النيفر

(3) الناطق باسم جمعيات حقوق الإنسان، ما زال يتعرض لعسف السلطة في تونس. يدخل السجن و يخرج منه.

(4) الرئيس الإرتري الحالي

(5) الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير ارتريا قبل أن ينقلب عليه اسياس افورقي و يحيله الى "المواطن الإرتري الأول" أسوة بالرئيس السوري الأسبق شكري القوتلي الذي منحه الرئيس عبدالناصر بعد الوحدة لقب "المواطن العرب الأول".

(6) سعيد صالح و محمود حسب الذي تدرب في كوبا قادا وحدات الفدائيين الإرتريين التي نفذت عمليات فدائية أسطورية و باهرة داخل المدن الإرترية المحتلة و في معسكرات الجيش الإثيوبي. عرفا بالشجاعة و الإقدام و حسن التدبير. اغتالتهما عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير ارتريا في مدينة كسلا السودانية.

elsouri1@yahoo.com

 

آراء