حرب الخرطوم ورحيل البشرى: دمارٌ وإعمارٌ 

 


 

 

(1)

مقدمة

أكملت حرب الخرطوم شهرها السادس وزادت عليه بضعة أيام، ولايزال القتال مستمراً بين قوات الشعب المسلحة وقوات الدعم السريع المتمردة عليها، وحجم الدمار المادي والمعنوي قد تجاوز طاقات البلاد والعباد؛ بيد أن التوافق السياسي لإيقاف الحرب يتراءى كسراب بقيعة يحسبه اللاجئون والنازحون أمناً، وهم يواجهون ظروفاً حياتيةً حرجة ًوبالغة التعقيد، ويشعرون بأن وطنهم قد أضحى في مهب الريح، وآلامهم تتصاعد بمتوالية هندسية كلما ابتعد عن أنظارهم أفق إفشاء الأمن والسلام في ربوع ديارهم، التي هجروها تحت تهديد أسلحة قوات الدعم السريع وحالات الانفلاتات الأمنية التي أفرزتها الحرب، وشكلت منها نمطاً حياتياً مرعباً في معظم أحياء مدن العاصمة الثلاث وهوامشها السكنية، وبموجب ذلك تراكمت أحزان الناس، وعيل صبر الكثيرين منهم واُرهق جلدهم. وفي هذا الزمان البخس انتقلت روح البروفيسور السيد البشرى (1935-2023) إلى الرفيق الأعلى، علماً بأنَّ الخرطوم الكبرى كانت تمثل موطن أطروحته الأكاديمية لنيل درجة الدكتوراه بجامعة لندن (1970)، حيث وثَّق فيها لنشأة المدينة تاريخياً، وناقش تركيبتها الديمغرافية، وحلل أسباب تطورها اجتماعياً واقتصادياً. وعالج في أبحاثه اللاحقة مشكلات تخطيط الخرطوم العمرانية، وكيفية إعادة تخطيطها وفق رؤية حديثة ومعاصرة؛ تليق بجمال موقعها الجغرافي بين النيلين الأزرق والأبيض. والآن رحل البشرى، قبل أن يسهم في إعادة تخطيط الخرطوم الكبرى بعد نكبتها الثالثة، التي جعلت بعض معالمها القديمة أثراً بعد عين، وشردت معظم أهلها إلى دول الجوار ومواطن النزوح الأمنة في بقاع السودان المختلفة، وأصابت نذراً منهم بنقصٍ في الأموال والأنفس والثمرات.


(2)

الخرطوم عبر الحقب التاريخية

أجمع المؤرخون على أنَّ وجود الخرطوم السكاني في العصور القديمة والوسيطة كان سابقاً لتأسيسها عاصمة للحكم التركي-المصري (1821-1885) في عهد الحكمدار عثمان بك (1824-1825)، الذي نقل العاصمة من ود مدني إلى الخرطوم عند مقرن النيلين الأزرق والأبيض، ثم تطورت الخرطوم عمرانياً وإدارياً وتجارياً في عهد الحكمدار علي خورشيد باشا (1826-1838)، والحكمداريين الذين أعقبوه على المنصب ذاته. وبحلول عام 1840 بلغ عدد سكانها نحو ثلاثين ألف نسمة، وتوسع عمرانها، ونشطت حركتها التجارية. وخلال الأربعة عقود الأخيرة من الحكم التركي-المصري زارها عدد من الرحالة الأوروبيين أمثال جون بزرك (1846)، وجورج ميلي (1850)، وجوزيف شوري (1851)، وأشادوا بجمال موقعها عند مقرن النيلين ودينامية نشاطها التجاري. كما وصفها أحد الأدباء المصريين لاحقاً بأنها مدينة "جامعة إلى جمال الموقع الطبيعي محاسن النظام المدني، والرونق الحضري. وأكثر ابنيتها من الحجر واللبن الأحمر، مزدانة بالجبس والآجر. وقصورها في غاية البهجة والرونق، وشوارعها منتظمة جداً. وفيها شارع يبتدئ من شاطئ البحر الأزرق وينتهي في جنوب المدينة، يسمى السكة الجديدة، استعارة من اسم السكة الجديدة في القاهرة. وجميع سكانها محافظين على عاداتهم الأصلية، ثم نشأ فيها التقليد الغربي، وعادات المدنية الأوروبية، وأصبحت أخلاق وعادات السكان من الطبقة الأولى والثانية حتى في المأكل والمشرب أوروبية محضة.... ولسكان الخرطوم ميل شديد إلى تزين المنازل بأدوات الرياش الفاخر، وهم يقتدون بالأوروبيين فيما يخترعونه من أصناف أثاث المنازل وأنواع الملابس، وعندهم من الملاهي وأماكن الرقص والقهاوي ما يزيد على الخمسمائة." هكذا كانت الخرطوم قبل حصارها وتحريرها عام 1885.

وبعد الانتصارات التي حققها الإمام محمد أحمد المهدي وأنصاره في مديرية كردفان والجزيرة أضحت الخرطوم محط انظارهم إلى أن ضربوا حولها حصاراً خانقاً في النصف الأخير من العام 1884، امتد إلى بضعة أشهر. وعندما بلغ الحصار غايته، ونفد المخزون الغذائي، وهبطت الروح المعنوية في أوساط الجنود والرعية، بدأ غردون باشا، حكمدار عام السودان (1883-1885)، يتشبث بوصول حملة الإنقاذ التي غادرت أبوطليح متجهة نحو الخرطوم، فكتب منشوراً علَّقه في طرقات المدينة، قائلاً: "قد جاءت البشرى بأن الجيش الإنكليزي فَرّقَ جموعهم [أي الأنصار] في صحراء بيوضة، وقتل منهم أُلوفاً، ونزلت مقدمته المتمة، وهو مسرع لإنقاذنا، وبسبب هذه البشرى عفوتُ عن أحمد بك جلاب مدير الخرطوم، وعمن اشتركوا معه في مراسلة المهدي، وأطلقتُ سراحهم من السجن." (شقير، 1981م، 526) فكان رد المهدي على ذلك المنشور: "إن الجردة التي تعتمدونها ما لها وجه بوصولها لكم من سَدّ الأنصار الطرق، فإن اسلمت وسلَّمتَ فقد عفونا عنك، وأكرمناك، وسامحناك فيما جرَى، وإن أبيتَ فلا قدرة لك على نقض ما أراده الله... وقد بلغني في جوابك الذي أرسلته إلينا أنك قلت إن الإنكليز يريدون أن يفدوك وحدك بعشرين ألف جنيه... إن أردت أن تجتمع بالإنكليز فبدون خمسة فضة نرسلك إليهم. والسلام."

وواضح من هذه الرسائل المتبادلة بين الطرفين، أن تعنت غردون وتشبثه بحملة الإنقاذ كان واحداً من الأسباب الرئيسة التي دفعت الأنصار إلى الانتقال من الحصار إلى الهجوم العسكري، الذي حدث في صبيحة السادس والعشرين من يناير عام 1885م، وأفضى بدوره إلى تحرير مدينة الخرطوم، وقتل الجنرال غردون، واستباحة المدينة، وقتل بعض سكانها، وأخذ بعض نسائها سبايا. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها خُصص قصر الجاركوك للإمام المهدي لقربه من مسجد الخرطوم، ونزل الخليفة عبد الله في سراي الحكمدارية، والخليفة شريف في مبنى الكنيسة الكاثوليكية، واحتل الأمير محمد عثمان أبوقرجة ديوان المديرية. وعين المهدي الأمير أحمد محمد حاج شرفي على إدارة حدائق الخرطوم وجنائنها، والأمير طه محمد لإدارة الترسانة، والأمير عبد الرحيم الطريفي للمحافظة على الجبخانة ومباشرة تعبئة الخرطوش وتصلح الآلات الحربية، ثم بعد ذلك تمَّ تشغيل مطبعة الحجر لإصدار مناشير المهدي وتعليماته الإدارية.

وفي خطبة جمعته الأخيرة بمسجد الخرطوم، وضع المهدي الأسس التي استند إليها في تشجيع الأنصار على الخروج من "عاصمة الترك" (الخرطوم) إلى بقعة أم درمان، مستأنساً في ذلك بقوله تعالى من سورة إبراهيم: ﴿وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45)  وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)  فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)  وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)  هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾. وبهذه الخطبة شكل المهدي موقفاً أشبه بما حدث بعد تحرير مدينة الأبيض، حيث آثر البقاء في معسكر الجنـزارة بدلاً من الانتقال إلى مدينة الأبيض المحررة. واستناداً إلى المنطق ذاته، حث المهدي أنصاره بهجر مدينة "الذين ظلموا أنفسهم" والعودة إلى بقعة أم درمان، التي أضحت حاضرة للدولة المهدية، وبلغ عدد سكانها 150 ألف نسمة عام 1896.

وبعد الانتقال إلى أم درمان يبدو أن بعضاً من أنصار المهدي قد هدَّموا بعض منازل الخرطوم لتعمير منازلهم بالعاصمة الجديدة، الأمر الذي لم يجد استحسان عند الخليفة عبد الله، الذي خاطب أحمد سليمان، أمين بيت المال، بعد شهرين من تحرير الخرطوم، قائلاً: "بعلمك أني نبهت غير ما مرة بعدم تهديم منزل واحد من منازل الخرطوم على وجه العموم من غير استثناء، وأكدت ذلك غاية التأكيد، وأعلمتك بأنه إذا حصل من أي أحد هدم بيت واحد، فإذا لم تستطع منعه خابرني به، وما تركت لك في هذا الخصوص شيئاً. وقد كنت أظن أنك تقوم في تنفيذ هذا الأمر بهمة عالية؛ ولكن بحضوري بالخرطوم ومناظرتي إليه وجدت كثيراً من المنازل مهدوماً، بل وجدت البلد في بعض المحلات صار خرباً، وكل ذلك حصل وأنت بالبلد، لا صقت [كذا] من ارتكب ذلك، ولا أخبرتني بأقل شيء في هذا الخصوص. وعلى أنه لم يخف على الله أمر الناس الذين أجروا ذلك، لما أنه ظاهر على مساكنهم، وقد كان الواجب عليك واللائق بحالك الاهتمام بتنفيذ هذا الأول أول صدوره منا لما أنك تعلم. أنه لا قصد لي غير إجراء ما فيه مصلحة الدين العمومية، وحق تلغرافك هذا أن يأتيني منك أولاً قبل خراب البلد لإمكان المداركة."

وواضح من هذا الخطاب إن مدينة الخرطوم قد خُربت لإعمار أم درمان، ويبرر البروفيسور محمد إبراهيم أبوسليم ذلك السلوك التخريبي بقول: "إن نشأت مدينة حديثة إلى جوار مدينة قديمة لابد أن يُسرِّع بخراب القديمة وزوالها؛ لأن المدينة الحديثة تنشأ على حساب المدينة القديمة سواء كان مادياً بأخذ طوبها وأحجارها وأخشابها، كما وقع لمدينة سوبا عند إنشاء الخرطوم، وللخرطوم عند إنشاء أم درمان"؛ أو حضارياً وتجارياً مثل ما حدث "لمدينة سواكن عند إنشاء مدينة بورتسودان، ولمدينة بربر التاريخية التي أضعفها ظهور مدينة" أتبرا (عطبرة).

وبعد هزيمة الأنصار في معركة كرري (أم مدرمان) 1898، عاد الغزاة المنتصرون إلى مدينة الخرطوم، وأُوكلت مهمة تخطيط المدنية وإعادة إعمارها إلى المخطط الحضري البريطاني ويليام ماكلين (William Mclean)، الذي صمم المخطط الهيكلي للمدينة، ورسم شوارعها بصورة أشبه إلى خطوط العلم البريطاني (Union Jack)، تتمثل في عشرة شوارع رئيسة، خمسة منها من الشرق إلى الغرب، وخمسة من الشمال إلى الجنوب، وصُممت بينها مربعات المدنية حسب وظائفها الإدارية والتجارية، والسكنية. وتشمل الشوارع الممتدة من الشرق إلى الغرب: شارع كتشنر (شارع النيل)، وشارع غردون (شارع الجامعة)، وشارع ونجت باشا (شارع الجمهورية)، وشارع عباس (شارع البلدية)، وشارع السلطان (شارع السيد عبد الرحمن)؛ وتشمل الشوارع الممتدة من الشمال إلى الجنوب: شارع الدفتردار (شارع المك نمر)، وشارع فكتوريا (شارع القصر)، وشارع الملك فؤاد (شارع عبد المنعم محمد)، وشارع نيوبولد (شارع الحرية)، وشارع إسماعيل باشا (شارع علي عبد اللطيف). وإلى جانب هذه الشوارع الطولية والعرضية كان يوجد عدد من الشوارع الفرعية. وتدريجياً أضحت المدينة تتمدد جنوب السكة الحديدية في شكل أحياء سكنية ومحلات تجارية. بينما ظلت أم درمان عاصمة وطنية، تقطنها مجموعات من قبائل أهل السودان ذات السحناتٍ الاثنية المتعددة والعادات والتقاليد، الموصولة بجينات مواطنها الأصلية. وعلى ضفة النيل الأزرق اليسرى نشأت مدينة الخرطوم بحري بطابعها العمالي وأحيائها الشعبية. هكذا تشكلت الخرطوم الكبرى بمدنها الثلاث، وظل عدد سكانها في زيادة طردية مستمرة، حيث قفز من 70 ألف نسمة عام 1907 إلى نحو 7 ملايين نسمة قبل اندلاع حرب 15 أبريل 2023.


(3)

السيد البشرى وإعادة تخطيط الخرطوم الكبرى

يُعدُّ البروفيسور السيد البشرى من أوائل الجغرافيين السودانيين الذين انتبهوا إلى مشكلات مدينة الخرطوم الكبرى، ونادوا بضرورة إعادة تخطيطها، حيث أبان طرفاً من ذلك في أطروحته (The Khartoum Conurbation: An Economic and Social Analysis) لنيل درجة الدكتوراه بجامعة لندن عام 1970. وعندما كتب أطروحته لم يتجاوز عدد سكان الخرطوم بمدنها الثلاثة 700 ألف نسمة. وعزا البشرى الزيادة الطردية في عدد السكان إلى تمركز أكثر 70% من الصناعات والخدمات الصحية والأنشطة التجارية في مدينة الخرطوم، فضلاً عن سوء توزيع الخدمات بين أحياء العاصمة المختلفة، وقلة الساحات المخصصة للمنتزهات والحدائق والميادين الرياضية والاحتفالات الوطنية والدينية العامة. وإلى جانب ذلك نظر إلى مشكلات استخدام الأرض، الناتجة من التوسع العمراني الذي شهدته مدينة الخرطوم، واستشهد بالأمثلة الآتية وطرح بعض الحلول الممكنة:


أولاً: الثكنات العسكرية

انتقد البشرى وجود الثكنات العسكرية في المناطق الاستراتيجية ومداخل الكباري في المدن الثلاث، وأوضح أن الثكنات العسكرية يجب ألا تكون وسط الأحياء السكنية ودواوين الخدمة المدنية؛ "لأسباب تتعلق بأمن المواطنين حالة اندلاع" أي صدام مسلح. ولذلك اقترح نقل الثكنات العسكرية إلى أطراف المدن، بشرط أن تعزز بمساكن للعاملين المنتسبين إليها، مع توفير الخدمات العامة التي يحتاجونها. ولو أخذ أصحاب القرار السياسي والإداري بتوصيات السيد البشرى لتفادى سكان الخرطوم الكثير من الأضرار التي لحقت بهم جراء الحرب الدائرة في الخرطوم الآن.


ثانياً: مطار الخرطوم

انتقد البشرى وجود مطار الخرطوم في وسط الأحياء السكنية، لأنه يشكل خطراً لاحتياطات السلامة الجوية والأمن العمراني للمواطنين الذين يسكنون الأحياء المجاورة له، ويُسهم في التلوث البيئي الناتج عن محركات الطائرات وورش خدماتها الفنية. فأوصى البشرى بضرورة تشييد مطار جديد خارج العاصمة، وعلى مواصفات دولية معاصرة. وبالفعل خصصت حكومة الإنقاذ (1989-2019) مساحة واسعة جنوب أم درمان لأنشاء المطار الجديد، وقّعت وزارة المالية السودانية وشركة "سوما" التركية اتفاقية لتشييد مطار الخرطوم الجديد بنظام “البوت" في مارس 2018، وبلغ الكلفة الكلية لتشييد المطار آنذاك واحد مليار و150 مليون دولاراً أمريكياً، ووعدت الشركة تنفيذ المرحلة الأولى بكلفة 800 مليون دولاراً أمريكياً خلال ثلاثين شهراً من تاريخ التوقيع. لكن اندلاع ثورة ديسمبر 2018 قد أوقف العمل، ولا ندري أين ذهبت الأموال المخصصة لتشييد المطار الجديد.


ثالثاً: المباني الخدمية

انتقد البشرى وجود بعض المباني الخدمية في أماكن استراتيجية وسياحية في مدينة الخرطوم بحري، مثل مصلحة النقل الميكانيكي، ومصلحة المخازن والمهمات، ومصلحة النقل النهري، وسجن كوبر، وأوصى بنقلها ونقل المباني المشابهة لها إلى أطراف المدينة، واستغلال مواقعها في أغراض تجارية وسياحية، تدر عوائداً مجزية إلى الخزينة العامة.


رابعاً: التجمعات الصناعية

انتقد البشرى أيضاً وجود التجمعات الصناعية في وسط الأحياء السكنية بالخرطوم الكبرى، وأوصى بنقلها إلى أطراف المدينة، أو إعادة توزيعها بين العاصمة القومية والأقاليم؛ لأن بعض الصناعات ليس بالضرورة أن تكون في العاصمة الخرطوم، بل يستحسن خلق مدن صناعية خارج العاصمة، توفر للعاملين فيها سكناً وخدمات أفضل.


خامساً: السكن العشوائي

أوصى البشرى بمعالجة السكن العشوائي في أطراف المدن الثلاث (الخرطوم، أم درمان، الخرطوم بحري)، واقترح قيام مدن عمالية في المحيط الإقليمي لولاية الخرطوم، مع الاعتناء بالتنمية الريفية والصناعية في ولايات السودان الأخرى؛ لتكون أحد الأسباب الجاذبة للقوى العاملة في السودان، والدوافع الحافزة لتفريغ ولاية الخرطوم من العمالة الزائدة عن حاجتها.


سادساً: البحث عن عاصمة جديدة

إلى جانب توصيات البشرى، اقترح بعض الباحثين من مجال العمران الحضري قيام عاصمة إدارية جديدة؛ لتخفيف الضغط على الخرطوم، التي وصفها أحد أساتذة اللغة الإنجليزية الزائرين بأنها "مدينة كبيرة، تتمدد بعشوائية لا يمكن أن تحظي بالقبول، فهي حارة، ومغبرة، وفقيرة، وغير منظمة، ومزدحمة. توجد فيها مباني قليلة من الطراز القديم، بينما بقية المباني مشيدة من الخرسانة، نصفها مكتمل، ونصفها الآخر مهدم. المباني القليلة التي خلفها عهد الاستعمار البريطاني بحالة سيئة، وتعاني من عدم الصيانة." إذن إنشاء عاصمة إدارية جديدة سيكون أحد الأسباب التي تسهم في تخفيف الضغط السكاني على الخرطوم، وتفسح المجال لأسلوب جديد لإدارة البلاد وتشجيع الاستثمارات الخارجية.

نأمل أن تجد التوصيات أعلاه التي وضع البروفيسور السيد البشرى لبناتها أذناً صاغية من أصحاب "العقل الاستراتيجي" في السودان، إن وجدوا، وأن تكون هادياً لعملية إعادة أعمار مدينة الخرطوم الكبرى بعد انتهاء هذه الحرب اللعينة الدائرة الآن وسط أحيائها السكنية ومؤسساتها الخدمة المدنية. ويجب ألا يُترك أمر إعادة تخطيط المدينة إلى السياسيين وبعض الإداريين والعسكريين الذين تنقصهم الخبرة الفنية في مجال التخطيط الحضري، وليس لمعظمهم نظرة مستقبلية عن كيفية استقلال الأرض لخدمة متطلبات الحياة الحضرية.


(4)

خاتمة

لا جدال في أن إعادة تخطيط الخرطوم الكبرى يجب أن تكون من أولويات الفترة التأسيسية، التي تعقب إيقاف الحرب وبسط السلام في ربوع السودان. وتأتي هذه الأولوية بعد التوافق السياسي الوطني العريض، الذي يؤسس لانتقالٍ موضوعي من مربع "خطاب الحرب الوجودي" الذي يتمركز حول الاقصاء السياسي واستئصال الآخر المخالف في الرأي إلى البحث عن طرائق تفكير راشدة، تكون رؤيتها إعادة بناء الوطن، ورسالتها تأسيس نظام حكم جديد-ملائم لسودان ما بعد الحرب، وأهدافها التوافق على وضع نظام ديمقراطي تعددي يسع الجميع باختلاف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية، ويكون محروساً بمنظومة عسكرية وأمنية واحدة، تتبلور وظائفها الأساسية في احتكار وسائل العنف الشرعي في المجتمع، والحفاظ على سيادة الدستور والقانون، وصون الأمن القومي، وحماية حدود البلاد السياسية.


***

(5)

نماذج من منشورات السيد البشرى


1. The Khartoum Conurbation: An Economic and Social Analysis: Unpublished Ph.D. Thesis, University of London, 1970.

2. “The Development of Industry in Great Khartoum, Sudan, The East African Geographical Review 10, 1972, pp. 27-50.

3. “Some Demographic Indicators for Khartoum Conurbation, Sudan, Middle Eastern Studies 15, 3, 1979, pp. 295-309.

4. “Development Planning in the Sudan, Erdkunde 39, 1985, 55-59.

5. “The Impact of Great Khartoum on the Rest of Sudan”, in: Abu Sin, M.E; Davies, H.R.J. (eds.), The Future of Sudan’s Capital Region: A Study in Development and Change, Khartoum: Khartoum University Press, 1991.




ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء