حكاية تلفاز (الحلقة الخامسة)

 


 

الياس الغائب
2 December, 2022

 

إريتريا كما يحلو لأهل السودان أو إرتريا كما يحلو لأهل البلد، اسم أطلقه اليونانيون على البحر الأحمر و إعتمده الايطاليون فيما بعد اسماًللمنطقة التي تتميز بتضاريسها و معالمها البيئية المتنوعة من مرتفعات و منخفضات و أراضى ساحلية ممتدة و بتعدد الأعراق. هذا البلد ذوالتسع مجموعات عرقية نال إستقلاله فى يوم 24 مايو 1991 بعد ثلاثين عاماً من الكفاح المسلح. و الطريق البرى من كسلا إلى أسمرا والذى يمر بنقطة اللفة، تسنى، هايكوتا، أغوردات و كرن يبدأ من المنخفضات و يتجه صعوداً إلى المرتفعات.و من المناخ الحار الجاف إلىالمناخ الرطب المعتدل.

في أسمرا العاصمة يقف شارع "كمشتاتو" أو الحرية كما أصبح بعد التحرير شاهداً على الإستعمار الإيطالى، و قد كان محظوراً على الإريتريين إرتياده، حيث كان حكراً على الإيطاليين. كما تقف شامخة كاتدرائية القديس جوزيف الكاثوليكية وهي تحفة معمارية بهية الجمال،وغير بعيد منها تشرئب مئذنة جامع الخلفاء الراشدين ذى الطراز التركى. إن أول ما يلفت إنتباه الزائر القادم إلى إريتريا ويشده بعد البنيان و العمارة الإيطالية هو الوجود المتميز للمرأة الإريترية فى جميع مناحى الحياة. فهى بائعة الخضر والفاكهة و البقوليات والعيوش. و هى النجّارة والبناءة والحطّابة و الحدّادة و السائقة و الميكانيكية و "العجلاتية". و هى العاملة والموظفة و المجندة. و هى الطبيبة والمهندسة و المعلمة و المديرة والوزيرة. و هى بائعة التين الشوكى "البلس" و الورد و العطر و الموسيقى. و هى صاحبة الفيلا الجميلة و الفندق الراقى و السيارة الأنيقة و المنتجع السياحى الجميل.

إن المرأة الإريترية مقتصدة فى معاشها متدبرة فى حياتها. تدّخر كل ما تكسبه و لا تنفق إلّا اليسير. وهى فى هذا عكس الرجل الذى ينفق كل ما يكسبه فى المقاهى و الحانات و اللهو. كما أنها مطيعة و مرغوبة و ذات حظوة. و قد إستطاعت بصبرها و جلدها و كدها و حسن تدبيرها و بما لديها من بساطة و واقعية أن توظف جميع مواهبها و تحقق الكثير.

فى الأشهر الأولى كنت وحيداً لا أسرة و لا تلفاز. أقضى وقتى نهاراً فى البحث عن عمل و فى العصر و ما بعد العصر أتمشى فى شارع الحرية ذى الجوانب المرصوفة بأشجار النخيل كعادة الإريتريين التى ورثوها عن الإيطاليين و فى المساء أسعى بين المقاهى والكافتيريات زائراً و سائحاً، لحياة المدينة متذوقاً و لنسائم لياليها العليلة متنسماً.

يمتاز الإنسان الإريترى بحس أمنى طاغ يكاد يطغى على كل جوانب حياته، و لا يرى الكثيرون غرابة فى ذلك، لا سيما الذين يعزون هذه السمة إلى فترة النضال المسلح ضد أثيوبيا التى إستمرت زهاء الثلاثين عاماً، هى عمر الثورة الإريترية. بيد أن آخرين يحسبونها طبعاً وسجية. يقول هؤلاء الذين يرون أنها حس أمنى أُكتسب أثناء فترة النضال المسلح إن الكلمة أو الخبر أو المعلومة لا تقل أبداً أهمية عن الرصاصة، فالكلمة قد تكون قاتلة تماماً كما الرصاصة. لذا حرص المقاتلون الثوار على التعامل مع المفردة اللغوية بحذر شديد. كما حرصواعلى تجنب الخوض فى الأشياء، يستوى عندهم فى ذلك ما يعنيهم و ما لا يعنيهم. حتى لا يقع أحدهم فى المحظور. و كانت أسلم مفردة يتفوه بها أحدهم حين يُسأَل عن شئ هى "أنْدَعِى" و تعنى بالعربية الفصحى (لا أدرى). و بالتالى فإنك عزيزى القارئ لن تجد من يجعلك تمتلك المعلومة مهما كانت تافهة، لا قيمة لها. ثم أصبحت هذه السمة بالممارسة الطويلة سلوكاً متبعاً لا يشذ عنه أحد. أما أولئك الذين يحسبون أنها طبع فطرى، فذلك لأنهم لمسوا هذا السلوك عند معظم الإريتريين إن لم يكونوا جميعهم. و لقد حدثت لى شخصياً عدة مواقف، أذكر منها ..

عندما تقدمت بأوراقى الأكاديمية إلى قسم علم الأحياء بكلية العلوم بجامعة أسمرا باحثاً عن و ظيفة غير معلنٍ عنها عسى و لعل، كتب رئيس القسم إلى عميد الكلية داعماً طلبى و موضحاً حاجة القسم لهذا التخصص. و حين إنتظرت شهراً تقريباً و لم أتلق خبراً من رئيس القسم ذهبت إليه مستفسراً، فأجابنى بأنه لا يعلم شيئاً و أن العميد لم يتصل به و لم يرد على كتابه و أن سياستهم فى الجامعة الصغير لا يسأل الكبير بمعنى أنه لا يستطيع أن يسأل العميد مستفسراً إن لم يستجب العميد من تلقاء نفسه، و نصحنى أن أتابع الأمر مع مديرة شؤون العاملين و هى سيدة فى الأربعين من عمرها تلقت تعليماً مرموقاً فى إحدى الجامعات الأمريكية. و من ثم بدأ تواصلى معها و درجت على مقابلتها مرتين فى الأسبوع حسب نصيحة تبرع لى بها صديق إريترى؛ لأقف على المستجدات إن كان هناك ما أستجد و يستحق الوقوف عليه. و كان ردها لى دائماً أنها لا تدرى. و قد إستمر الحال هكذا أربعة أشهر كاملة. عندئذ قررت أن أقتحم مكتب العميد مستفسراً.

قابلت سكرتيرته، حددنا موعداً و إلتقيت به. قال لى أنه رفع الملف إلى رئيس الجامعة (مدير الجامعة) و لم يتلق منه رداً و لا يدرى عن الأمرشيئاً. قلت له أننى إنتظرت طويلاً قال لى يمكنك أن ترجع إلى السودان إن لم تستطع الإنتظار و سوف نخطرك إن تم قبول طلبك. شكرته وخرجت و أنا أكاد لا أستوعب ما يجرى،. الكل يخاف، رئيس قسم لا يستطيع أن يسأل عميده و عميد لا يستطيع أن يسأل مديره و الكل لايدرى. ما العمل ؟

قررت إقتحام المدير نفسه هذه المرة، لم أستشر أحداً و ليس عندى ما أخاف عليه و الدنيا رمضان. حددت لى السكرتيرة موعداً و كان يوم خميس على ما أذكر. قال لى أنه لم يتلق طلبى من العميد و أشار إلى "فايل" وحيد ملقىً على مكتبه قائلاً هذا هو الطلب الوحيد الذى إستلمته وصاحبه إسترالى الجنسية. ثم نهض على تلفونه و أتصل مباشرة بالعميد و بدأ حديثه معه باللغة الإنجليزية متسائلاً عن طلبى الذى له أكثرمن أربعة أشهر و فجأة علا صوته بالتقرنجة و لم أفهم شيئاً و لكن يبدوا أنه أحتد معه و هو معروف عنه حدته و هذا ما علمته لاحقاً و لا يتجرأ أحد أن يمر بمكتبه أو يزوره. ثم إلتفت إلى قائلاً يوم الأثنين سوف أحسم لك هذا الموضوع ، ستجد النتيجة عند مديرة شؤون العاملين.

و جاء يوم الأثنين الموافق 12/03/1994 و جئت لمكتب مديرة شؤون العاملين و كان الزمان تحديداً التاسعة صباحاً. وكانت الإدارة قد أبدت موافقتها على قبولى عضواً بهيئة التدريس. لم تقل لى مديرة شؤون العاملين "أندعى" هذه المرة كما إعتادت، و لم تقل "و أخيراً مبروك" على الطريقة السودانية، و قد نشأت بيننا لا أقول صداقة و إنما معرفة طيلة هذه الفترة بحكم ترددى المتواصل على مكتبها و قد كانت تعلم جيداً مدى أهمية هذا الخبر بالنسبة لى و مدى وقعه على نفسى، إلّا أنها إكتفت بالقول "مر على بعد الظهر".

و حين جئتها بعد الظهر، طلبت منى أن أجلس على كرسى فى مكتبها و طفقت تخرج و تدخل، و تدخل و تخرج فى حركة دائبة لم أدركنهها، إلى أن دخلت علىّ مرة و قالت "تعال معى" و قمت أتبعها و أنا لا أدرى إلى أين؟ حتى دلفت إلى أحد المكاتب، و حين هممت أن أدخل وراءها، إشارت لى بيدها بما يفيد التوقف و عدم الدخول وراءها فتوقفت. و بعد فترة ليست بالقصيرة، خرجت ومدت إلىّ بورقة و أنا واقف فى الممر دون أن تتفوه بكلمة. أخذت الورقة، نظرت فيها، فوجدت فيها عرضاً للوظيفة التى تقدمت لشغلها و فيها موافقة رئيس الجامعة. لم تكلف هذه السيدة نفسها عناء الشرح و مشقة التفسير، كأن الأمر برمته لا يعنيها من قريب أو بعيد. و حتى حين فرغت من قراءة عرض الوظيفة لم تهنئنى ولا أدرى إن كان فى تعبير و جهها ما يدل على ذلك. و قد عجبت يومها لهذا السلوك.
تقع كلية العلوم بجامعة أسمرا فى الطابق الرابع فى المبنى الرئيسى للجامعة و يوجد قسم الحسابات و الإدارة فى الطابق الأرضى، و قد إعتدنا على صرف رواتبنا من (الشباك) أى من الحسابات مباشرة و ليس عبر البنك إبتداءً من اليوم السادس و العشرين من كل شهر. إتفق فى يوم من الأيام أن جاء اليوم الثامن و العشرون و لم نستلم رواتبنا، و لم نكن ندرى لذلك سبباً. و لما لم تكن بالطابق الرابع كافتيريا أومقهى، رأينا أنا و زميلة لى هندية أستاذة فى علم النبات أن ننزل إلى الأرض حيث مقهى الطلاب. و فى طريقنا إلى المقهى مررنا بالحسابات لأن الطريق تمر بها، فوجدنا باب مكتب الصرافة مفتوحاً و هى جالسة بالداخل فسلمنا عليها و استفسرناها عن سبب تأخرصرف الرواتب إن كان هناك سبباً و متى سوف تصرف ؟، فأجابت و إبتسامة باهته ترتسم على شفتيها "أندعى". وعندما مررنا بها بعد نصف ساعة و نحن فى طريقنا إلى الطابق الرابع وجدناها تصرف للعاملين فوقفنا و استلمنا رواتبنا و كأن شيئاً لم يكن وانصرفنا ونحن نتعجب لأمر هذه الصرّافة.
تقرر فى سبتمبر 1997 أن يسافر أول فوج "كوتة" من اللاجئين السودانيين فى إريتريا إلى كندا ضمن برنامج إعادة التوطين الذى تشرف عليه المفوضية السامية لشؤون اللاجئين. و بما أن المكتب الإقليمى للمفوضية بأسمرا قد أعلق منذ مايو 1997 أثر خلاف بينه و بين الحكومة الإريترية إلّا أنه ظل يقوم بتصريف بعض الأعمال المكتبية تحت إشراف الموظفين المحليين الإريتريين. كما تقرر أيضاً أن تسافر مجموعة من الصوماليين المقيمين فى "معسكر" مدينة عصب ضمن الفوج الأول. تم إخطار الصوماليين أولاً بإستدعاء مدير معسكر المجموعة المسافرة إلى كندا قبل مغادرتهم المعسكر بيوم، تحديداً فى عصر ذلك اليوم. و طلب منهم البقاء فى المعسكر و عدم مغادرته إلى أية جهة حتى صباح اليوم التالى دون إبداء أى سبب. و حين إستفسروه عن السبب قال لهم إنها تعليمات وردت إليه من أسمرا. و فى الصباح الباكرجئ إليهم بعربة ترحيل و طلب منهم أن يصعدوا إليها مع إخطارهم بأنهم سوف يسافرون إلى أسمرا لتكملة إجراءات سفرهم إلى كندا. هكذا أسقط فى أيديهم دون ترتيب مسبق أو إستعداد نفسى. حتى أنه كانت لبعضهم أمانات و إلتزامات فى مدينة عصب لم يسعفهم الوقت من الإيفاء بها. منهم من جاء إلى أسمرا بحقائب مبعثرة و ملابس متسخة و لم يجد الوقت الكاف لغسلها و ترتيبها. و جاءت مجموعة عصب لتفاجئ مجموعة أسمرا من السودانيين الذين لم يخطروا أبداً رسمياً بالسفر إلّا بعد يومين من وصول زملائهم الصوماليين. و إن ظلت ساعة الصفر (أى ميقات مغادرة مطار أسمرا) للمجموعتين مجهولة. قيل لهم بعد يومين و فى رواية أخرى بعد ثلاثة أيام. بيد أن الأمر إتضح حين طلبت إدارة المعسكر فى حزحز بأسمرا من كل المسافرين تسليم العهد التى كانت فى حوزتهم من أسرة و بطانيات و أدوات طباخة. يومذاك علموا أن هذا اليوم هو آخر يوم لهم فى إريتريا. و هذا الذى حدث، لقد سافروا فى مساء نفس اليوم على متن طائرة لوفتهانزا الألمانية.
طلب منى مساعد ضابط الحماية بالمكتب الإقليمى للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين بأسمرا أن أساعده فى الترجمة لدى بعثة أمريكية جاءت من نيروبى لمعاينة اللاجئين السودانيين المرشحين لإعادة توطينهم بالولايات المتحدة الأمريكية. قال لى في محاولة منه لأن أتجاوب مع طلبه دون أن أسأله أجراً وأتعاباً، إنه يعتذر و يأسف لإمكانات المكتب المادية، و لكنه يأمل في أن يرد لى الجميل فى المستقبل القريب. أبلغته أننى سعيد بهذه المهمة و لا أريد عليها جزاءً و لا شكوراً، يكفى أننى أخدم بنى جلدتى، ولكنى رجوته أن يكون معنا واضحاً و صريحاً و أن يمكنا من الحقائق التى تخصنا و تهمنا. فوعد بأن يكون أكثر وضوحًا وشفافية. و دارت الأيام و قصدته بعد أربعة أشهر تقريبًا من تاريخ ذلك الحديث، في أن يحرر لى المكتب الأممى مستنداً يؤكد فيه ما ورد في طلبى لدى السفارة الإسترالية بنيروبى من حيثيّات، حسب طلبها، مع إننى أعلم أن المسؤول الإريترى يميل إلى المشافهة و يتحاشى الكتابة كما أنك إذا تقدمت بطلب من صفحة واحدة راجياً منه إعتماده فإنه يقرأه في حذر مرة و مرة و مرة و مرات ثم يقلب الورقة ليقرأ ما على ظهرها كيلا يفوته شيء مكتوب على ظهرها ثم يعود مرة أخرى لقراءة الطلب من جديد ثم بعد ذلك يفعل بها ما أراد الله له أن يفعل.

فرأيت أن أتأكد من مدى صدقه و إلتزامه و الإيفاء بوعده، فقلت له:
هل ما زلت تذكر وعدك لى ؟
أى وعد ؟
بأن تكون أكثر وضوحاً و شفافية!
نعم أذكره
أما زلت عليه أم أنك أصبحت فى حلٍ منه ؟
هذا يتوقف على سؤالك! ماذا تريد ؟
و رفض بحجة أنه لا يملك صلاحيات ضابط الحماية الأممى الذى طُرد من قبل السلطات و لكن الحقيقة هي أنه قد تملكه الحس الأمنى فأختار درب السلامة.

eliaselghayeb@hotmail.com
الياس الغائب … كوبنهاجن

 

آراء