دموع ودماء وحروب .. اشتعالها وصناعتها

 


 

 

عفـــو الخـاطـــــر:

قدسنا موتى دون قبور
في أرض النشأة والاجداد
النور عثمان أبكر

رأيت ويلات الحروب ودموع الضحايا، بل ودماء وجثث القتلى في الازقة والشوارع والميادين والخلاء والفلاة منذ أواسط الستينيات عندما زحف آلاف الارتريين من المناطق الغربية المحاذية للحدود السودانية الى ريف مدينة كسلا طلباً للآمن والأمان هرباً مما حل بهم على أيدي الجيش الاثيوبي وما أفرزته سياسة الأرض المحروقة والابادة الجماعية التي طبقها جنرالات هيلي سيلاسي الأول وحاكم ارتريا المستبد الرأس أسراتي كاسا. أثناء ذلك شهدت تدفق آلاف من أبناء جنوب السودان الى الشمال والى دول الجوار هرباً من اتون حرب يغطي ضرامها ودخانها صمت مطبق لم يجد حينها صحافة حرة وضمير يقظ ووسائل اتصال جماعي تكشف بشاعتها وهولها وتسلط الضوء على ضحاياها الأبرياء الذين حصدتهم آلة الحرب الجهنمية بعد أن عجزت عن القضاء على "المتمردين" جيوش بائسة لا تستقوي الا على المدنيين دون خشية أو وجل، ولم تنتصر يوماً من الايام في نصف معركة على الأعداء الحقيقيين ولم تذد عن حياض الوطن أو تحمِ ثغراً من الثغور أو حداً من الحدود. واليوم تقصف بالطائرات شوارع وحواري وأزقة العاصمة التي ترتمي على شواطئ النهرين وما حولها في فجور ما بعده فجور. ثم بعد جين وجدت نفسي في اتون الحرب الاهلية اللبنانية التي بدأت بالهجوم على حافلة في منطقة عين الرمانة كانت تقل فلسطينيين مسالمين عائدين من احتفال لهم حصدت أرواحهم عناصر ميلشيا يمينية طائفية متعصبة من غير ذنب جنوه، فاشتعلت حرب السنتين، وبعد توقف قصير تمددت الحرب لخمسة عشرة سنة كاملة سقطت خلالها أرواح بريئة كثيرة. تلك حرب فريدة من نوعها والمتحاربون نسيج وحدهم. فبيروت لم تدكها الطائرات ولا قصفتها المدفعية، بل ظلت بلد الاشعاع والنور رغم طلقات البنادق ودخان الحرائق عند خطوط التماس في الشياح وعين الرمانة، والمتحف والأسواق التجارية، وفي منطقة الفنادق. ظلت الصحف والمجلات تصدر بالعربية والانجليزية والفرنسية، والمطابع تطرح ثمارها من كتب وعناوين بلغات عددا، وما انفك المذيع شريف الاخوي يبيّن للناس الطرق السالكة والآمنة في برنامجه اليومي المتواصل: "سالكة وآمنة". كان المتقاتلون ينادون بعضهم بمكبرات الصوت في أوقات الوجبات: "يا شباب بدنا نفطر، أو بدنا نتغدى، أو بدنا نتعشى. خلونا نوقف ساعة وبعدين بنكفي!" يا لسخرية الاقدار! كان الجميع يستجيب للنداء. تلك حرب أعود اليها فيما بعد.
قبلها بقليل، كنت بمحض الصدفة في نيقوسيا حينما غزا الاتراك شمال جزيرة افروديت الجميلة الوادعة وقسموا قبرص الى يومنا هذا رداً على انقلاب اليونانيين وازاحتهم للأسقف مكاريوس عن سدة الرئاسة. وبعدها بسنين عددا غدر أحد طلاب الكلية العسكرية الفنية في حلب بزملائه وهم في طابور الصباح فأرداهم قتلى في خسة ونذالة ما بعدها خسة لتكون تلك الحادثة شرارة المواجهة بين الدولة السورية وتنظيم الاخوان المسلمين، التي بلغت أوجها في مدينة أبي الفداء، حماة. تلك حروب ودماء ودموع وأشلاء نأتي اليها فيما بعد. لكن هناك لاعبين آخرين غفلت عنهم العدسات وأشاحوا يوجوههم عنها، نلقي بعض الضوء عليها وعلى ما كسبت وعلى مآسيها في رسالة بعثت بها قبل سنوات الى الصديق الاديب السفير الروائي جمال محمد إبراهيم:

أخي السفير العزيز/ جمال محمد إبراهيم

سلامي إليك أنى كنت، وأحسبك قد استقر بك المقام الآن في بيروت الهائجة المائجة حيث السوح افترشها اللبنانيون من كل حدب وصوب وهي التي كانت ممشى للغادين والرائحين ومتنزهاً. وكانت إبان الحرب البائسة في سبعينيات وثمانينيات حتى منتصف تسعينيات القرن المنصرم قفرا ينعق فيها البوم ويصيح الغراب ويتقافز بين أطلالها مسلحون ومسلحات بكل أنواع السلاح الخفيف والمتوسط التي قد تخطر لك على بال؛ وفي بعض الأحيان تعربد فيها أسلحة ثقيلة لا تملكها إلا الجيوش. بل أن بعض الجيوش لا تستطيع امتلاكها.

أدركت لك في سودانايل، يوم الأربعاء الفائت، مقالة تكاد أن تغيب في الفضاء الفسيح، فأمسكت بها حتى لا تفلت وتضيع كزبد الليل لا يمكث في الأرض، لكنه لا يذهب جفاء فحسب، بل لا يلمس الأرض حتى يتبدد. طبعت المقالة ليتسنى لي الرجوع إليها، إذا ما حدثتني نفسي الأمارة بان أثقل عليك بعبارة مثلما ما أفعل الآن.

هكذا هو “زبد الليل”، وسل الأخ والصديق العزيز السفير صلاح محمد علي عن ذلك ليخبرك اليقين. كان هذا هو الاسم (Les écumes du nuit) الذي أطلقه ميريديان دمشق على ناديه الليلي. وهو مربع فخيم ترتاده الصفوة ومجتمع الشام المخملي والذين يتمسحون بأعتابهم ويدافعوهم بالكتوف من أمثالنا. اخذ مني إقناع صلاح بالنزول إليه -في مناسبة دعانا إليها صديق عزيز – وقتا طويلا حتى قبل الدعوة. وكان يجرجر قدما ويؤخر اخرى، ولكنه امتثل للإلحاح. قضينا ليلنا هناك، وفي الفجر محت فتة المقادم (الكوارع) في مطعم أبي كمال بقايا ما علق بنا من زبد.

كانت مقالتك عن سوداني فطحل غاب عن دنيانا عجلا وشمسه لم تشرق إلا برهة سريعة. لكنه ترك وراءه معلما راسخا، كأنه من الأوابد، ما زال يضئ سماء أكسفورد ونواحيها ويمتد ضياؤه مشرقا ومغربا.

لم أتعرف على الراحل الدكتور احمد كرداوي شخصياً ولكني عرفت عنه من أصدقاء وزملاء أيام اشتغالي بهموم شرق أفريقيا ومحنة الناس في ارتريا وإثيوبيا والذين هُجّروا واقتلعوا من أرضهم فتدفقوا نحو شرق السودان. كان بعض العاملين في الإغاثة الإرترية قد عرفوه والتقوا به فترك فيهم أثرا بليغا لا يزول. وبعضهم عرفه في العاصمة البريطانية فلقوا منه العون والمساعدة. حدثني بعضهم عن ذلك حديثا مسهبا، فأصبحت بين فينة واخرى أزور بعض ما ترك من جهد بذله بذلاً كريما يتمثل في "نشرة الهجرة القسرية" التي تصدر كل شهرين عن مركز دراسات اللاجئين الذي أسسه بجامعة أكسفورد العريقة بعد أن أبى القابضون على زمام الأمور في جامعة الخرطوم أن ينالوا هذا الفضل العظيم – ليس جهلا بقيمته ومنفعته – ولكن سوء نية وفساد طوية وضنا بما ينفع الناس.

وقد أعدت إلى الضوء في مقالتك مسألة أظنها لم تنل من العالم الثالث ما تستحق من اهتمام، إلا وهي الإغاثة ومأساة اللجوء. لم يلتفت الكثيرون نحو البحث عن دور المغيثين في صنع تلك المآسي.

كان أول عهدي بضنك اللاجئين يوم تدفق الإرتريون في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي إلى المناطق المتاخمة لكسلا بشرقي السودان بعد أن بدأ "الرأس أسراتي كاسا"، حاكم ارتريا يومئذ، تطبيق سياسة الأرض المحروقة في غرب البلاد للقضاء على الثورة الإرترية التي اشتد عودها وأصبحت تؤرق مضاجع الإمبراطور هيلي سيلاسي وأسرته وحكومته وجنرالاته. احسب أن ذلك التدفق بعشرات الآلاف في وقت واحد إلى السودان فاجأ أهله وحكومته. هب السودانيون إلى نجدة من استغاث بهم بأريحية منقطعة النظير، إلا إن الحكومة، من هول المفاجأة، لم تستطع – ولم يكن لديها الخبرة والموارد – القيام بما يجب.

كانت أبواب السودان من جميع حدوده، شمالا وجنوبا، شرقا وغربا – وأظنها ما زالت – مفتوحة لهجرة الناس الطوعية. وكثر استقروا فيه وأصبحوا من أهله؛ ساعد في ذلك تداخل القبائل واختلاط العشائر والرحم وسماحة الناس. إلا أن التهجير الجبري الكثيف كان جديدا عليه يوم زحفت الألوف إلى مديرية كسلا.

اذكر مؤتمرا صحافيا عقده رئيس الوزراء حينذاك، السيد الصادق المهدي، ووزير الداخلية، الأمير عبد الله عبد الرحمن نقدالله، وهو – يرحمه الله -رجل حليم، سمح الأخلاق. كنت من بين حضور ذلك المؤتمر الذي انعقد صباحا في دائرة المهدي بامدرمان وليس في مقر رئاسة الوزراء أو وزارة الداخلية، مما حول انفعالي إلى غضب، إذ خيل إلى إن هذا التدبير ما هو إلا استهانة بأمر جلل حل بالسودان وجيرته، فقسوت في أسئلتي التي وجهتها إلى رئيس الوزراء ووزير الداخلية الذي عاد لتوه من تفقد أحوال اللاجئين في مناطق ود شريفي واللفة وتلطاشر ومدينة كسلا. تلقى الأمير أسئلتي، وفي بعض الأحيان ردودي عليه، باسما على عكس رئيسه الشاب. كنت يافعا ومندفعا وصحافيا في أول الطريق. وقد تلقيت ممن هو أكبر عمراً مني وأخبر مني بُعيد المؤتمر النصح والإرشاد في كبح جماح عواطفي والبعد عن الشطط.

لقد أضحت الإغاثة صناعة، بل صناعة ثقيلة مربحة تتداخل فيها مصالح شركات الأغذية والأدوية والنقل ومواد البناء والخيام وغيرها. بل لشركات السلاح مصلحة كبيرة فيها. وتلك الشركات لن تألوا جهدا في الحفاظ على هذه المصالح. لك أن تلجأ إلى موقعReuters Foundation AlertNet: Alerting Humanitarians to Emergencies وانظر إلى عدد المحن في القوائم الثلاثة: Crisis, Children, Country/Territory لترى بأم عينيك اتساع سوق هذه التجارة والصناعة. هم إن لم يجدوها لاخترعوها! أما المنظمات فهي لا تحصى ولا تعد، وكبار الموظفين فيها لهم مصالح لن يدخروا همة ليقوها من (أي مكروه).

ذكرت أيضا في مقالتك إيما مكيون، "تلك الفارعة الطول التي أتت من بلاد صغيرة" كما كان يطلق عليها مقاتلو جنوب السودان، والتي ماتت في ظروف ملتبسة مثيرة للشكوك والظنون. جاء إلى السودان مذاك، كما جال في أماكن اخرى من العالم المليء بالكوارث والفجائع والمظالم، عدد كبير من أمثال إيما. خاضوا حروبهم ومضوا أو تنقلوا من مكان إلى آخر. غير أن لايما قصة تروى، حكت جانب منها الصحافية الأمريكية ديبرا اسكروجينز. وربما يتحول الكتاب إلى شريط سينمائي يخرجه المخرج البريطاني توني اسكوت وتقوم فيه الممثلة الأسترالية نيكول كيدمان بدور ايما. إلا إن الفيلم كما الكتاب يواجه معارضة ضارية من أسرة مكيون لا سيما أمها السيدة ماجي مكيون ومن شقيقها.

وقفت كيدمان أمام توني اسكوت قبل ذلك، بل هو جمعها مرة اخرى مع طليقها توم كروز في (أيام الرعد Days of Thunder). لا اعرف إن كانت معارضة الأسرة ستحول دون صنع الفيلم أم سينطلق العمل فيه قريبا. لكن كتاب (حرب إيما)، الذي اشتريته بالصدفة في العام 1997 من مكتبة في محطة قطار لندنية حينما جذبني إليه غلافه، ألهم جون لوكاريه، الكاتب البريطاني، فكتب روايته (البستاني الدؤوب The Constant Gardner). وبطلة رواية لوكاريه "تيسا" تشبه إلى حد كبير ايما ومصير تيسا ليس مختلفا عما لقيته ممشوقة القوام التي تزوجت ريك مشار، أحد زعماء فصائل الحرب في جنوب السودان. إحداهما وضعت طفلا ميتا قبل أن تقتل في مجاهل كينيا والبطلة الأخرى قتلت في شوارع نيروبي وهي تتهيأ لتستقبل مولودها البكر. رواية لوكاريه أصبحت فيلما سينمائيا أخرجه فيرناندو ميريللس ومثلت شخصية تيسا تلك الممثلة الساحرة راشيل فايسز. اقرأ الرواية – إن لم تكن قد قرأتها – قبل أن تشاهد الفيلم. لم تلق أي رواية من روايات لوكاريه معالجة سينمائية أمينة للنص سوى (البيت الروسي The Russia House). قرأت جل ما كتبه مؤلف روايات الجاسوسية هذا بعد أن أغلق باب الحمام على نفسي، وقد تعرفت عليه كاتبا في مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما وقعت بين يدي روايته (قارعة الطبل الصغيرةThe Little Drummer Girl ).

اقتنيت (حرب ايما) من محطة اوستن في لندن. كنت قادما من الرياض في طريقي إلى مرسى ملتون كينز، الذي يقع في منتصف الطريق بين لندن وبيرمنجهام، حيث استأجرت قاربا من قوارب نهر التيمز (narrowboat) اقضي فيه أسبوع راحة وقراءة وتأمل، إلا إن الأصدقاء في عاصمة الإنجليز -التي لا تجد أحدا منهم فيها -لم يتركوني إلا قليلا. وقد تجولت بذلك القارب، الذي تبلغ سرعته القصوى ثلاثة أميال في الساعة، صحبة مالكه الإنجليزي والصديقين خلف الله العوض المعروف بيحى العوض وصديق محيسي، وكانا يصدران "الفجر الجديد" من قلب العالم النابض!

وفي رحلة اخرى لما بزغ فجر الألفية الجديدة صادفت في مكتبة صغيرة في لارنكا بقبرص كتاباً آخرا عن ايما. كتبته هذه المرة والدتها السيدة ماغي مكيون. جذبني عنوانه إليه: (حتى يبرد قرص الشمس Till the Sun Grows Cold). وكما تعلم، استعارت ماغي مكيون هذا العنوان من أبيات لوليم شكسبير يقول فيها:

أحبك أنت، ولا أحب أحداً غيرك،
حب لا يموت الى الابد
أحبك إلى أن يصبح قرص الشمس بارداً
وحتى تشيخ النجوم. *

أرادت، وهي تروي سيرتها منذ مولدها في الهند وقدومها إلى موطن أجدادها في انجلترا ثم ذهابها إلى أفريقيا بحثا عن المفقود الذي لم تجد وربما عثرت عليه ابنتها هناك، أن تعرب عن حبها الأبدي لايما. كان الكتاب محاولة من ام مكلومة للرد على رواية ديبرا اسكروجينز وتبرئة لها ودفاعا عن حياة ابنتها "البتول".

وعبارة شكسبير تلك ذهبت مثلا ومرجعاً. استعارها كثر، حتى في أشعارهم. فللشاعر الأميركي بيارد تايلورBayard Taylor (1825 – 1878) قصيدة جميلة ومعبرة بعنوان "أغنية بدوية" يقول فيها:

From the Desert I come to thee
On a Stallion shod with fire;
And the winds are left behind
In the speed of my desire.
Under thy window I stand,
And the midnight hears my cry:
I love thee, I love but thee,
With a love that shall not die
Till the sun grows cold,
And the stars are old,
And the leaves of the Judgement Book unfold!

لن أثقل عليك أكثر من هذا؛ لكن مقالتك أثارت شجونا ورددت أصداء من الماضي السحيق.

لك خالص المني والدعوات بالتوفيق في مهمة صعبة أنت أهل لها وقادر عليها وفي بلد أحبه أنا كيفما كان، وقد تعشقه أنت.

عمر جعفر السوري
5 ديسمبر/كانون أول 2006

حاشية: استأذنك في إرسال نسخة منه إلى العزيز صلاح محمد على، فقد ورد اسمه في حكاية هو شاهد عليها، ولا أريد أن اغتابه.

*
I love thee, I love but thee
With a love that shall not die
Till the sun grows cold
And the stars grow old


elsouri1@yahoo.com

 

آراء