رمزنا محجوب محمد صالح (يا طعم الرحيل المر)

 


 

عبدالله مكاوي
16 February, 2024

 

عبدالله مكاوي

abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
لإسم محجوب وقع خاص في مسيرتنا السياسية والصحفية والادبية، وعلي الاخص من الوجهة النضالية والتنويرية والانسانية. بدلالة، هل يمكن تناول الصحافة السودانية من غير عملاقها الراحل محجوب صالح؟ والذي يعتبر مع الرعيل الصحفي الاول، احد بناة هذه المهنة، وترسيخ قيمها المهنية. او يمكن التغاضي عن محجوب شريف، كلما ذكر الشعر السهل الممتنع، الذي يستمد حضوره من طموحات وعذابات وهزائم وانكسارات الانسان السوداني البسيط؟ او المرور مرور الكرام دون الوقوف بجلال واكبار للشهيد عبد الخالق محجوب، بوصفه احد مؤسسي الحياة السياسية الحديثة، وحادي ركب مشروعها النضالي، قبل ان يختتم حياته ببطولة تراجيدية، وهو يتعرض لمحاكمة مهزلة تستهدف روحه، ممن لا يرتقي لمقام رباط حزائه؟!
واذا كان هؤلاء الرموز الشامخة، يشكلون حضور باذخ في حياتنا الصحفية والادبية والسياسية، فالاكيد ان لهذا الاسم رنين خاص علي امتداد الوطن، مجسد في اناس بسطاء ولكنهم عظماء (محجوب/موسم الهجرة للشمال)، بما يمثلونه من صلابة التمسك بالاعراف والتقاليد الاصيلة، مع الانفتاح علي التجديد والتغيير والمواكبة.
اما الجانب الاهم في رمزنا الراحل، انه شكل بتجربته الشخصية حالة عامة، بعد ان وهب حياته للوطن وقضاياه، لانسانه وهمومه، ولمتاعب المهنة ومخاطرها. لدرجة امتزاجه بمشاغل الوطن ليصبحا صنوان. اي يستمد الوطن جزء من حضوره في افئدتنا، بتواجد ونشاطات نماذج رمزنا الراحل محجوب صالح. اقلاه هذه النماذح الباذخة من جهة العطاء والتضحيات والتعبد في محراب الوطن، تعيد جزء من التوازن النفسي المختل لصالح خيباتنا السياسية الممثلة في الكيزان او عساكرنا كالبرهان او قادة المليشيات والحركات المسلحة او نماذج اردول وترك ومبارك الفاضل ومستشاري ومناصري الدعم السريع...الخ.
والحال كذلك، بقدر ما يسم تاريخنا وجود قادة بلهاء ومجرمين كالنميري والبشير، تخضع لهم احزاب مؤدلجة، تحول الوطن علي ايديهم الي حقل للتجارب الفاشلة والمكلفة. لتستحيل السياسة الي سيادة، والسلطة الي وسيلة للتسلط والثراء، وممارسة كافة انواع الانتهاكات في حق المواطنين، والتفريط في مصالح الوطن لصالح اسيادهم في الخارج. بقدر ما شكل نموذج الراحل محجوب الوجه المشرق ليس للشخصية السودانية النموذجية التي نفاخر بها فحسب، وانما في الجوانب الصحفية كمشاعل للاستنارة ومحامي عام للدفاع عن حقوق المواطنين. والجوانب السياسية كمشروع نضال لتحسين احوالهم، والقيم الخيرة كتجسيد علي الارض. اي نموذج الراحل محجوب كوجه مضئ للوطن، هو ما يمنح الو طن معني يستحق الانتماء والاحتفاء.
لكل ذلك يتعدي رحيل محجوب صالح الجانب الشخصي، لرحيل تقاليد مجتمعية وقيم سياسية ومرحلة كاملة من تاريخنا، حفلت بالتجارب والممارسات والمحاولات، وغض النظر عن محصلتها، إلا انها فيما يتصل بمحجوب وصحبه الميامين من الرعيل الاول من الصحفيين والسياسيين والادباء، انهم وضعوا الوطن نصب اعينهم، والمواطن كمقصد يسعون للارتقاء به. وعليه رحيل محجوب من هذه الوجهة، يقول الكثير عن الابتعاد عن منظور للسياسة وتعاطي للشأن العام، يتصف بالتاهيل والرؤية الموضوعية والاحساس بالمسؤولية. وبتعبير آخر، كانت السياسة والصحافة والآداب اقرب للمنظور البرجوازي، المعادل للطبقة الوسطي التي تضفي علي كل الانشطة السابقة شئ من المضمون الراقي، واسس منهجية للعمل والتعامل، واسلوب حياة اقرب لاولاد الناس اذا جاز التعبير.
والحال كذلك، كانت هنالك مقاربات سياسية ومعرفية وتنويرية للقضايا العامة ولو في حدها الادني، إلا انها شكلت منظور شامل او اطار ليس للعمل السياسي ولكن لكل تقاليد الحياة. ولكن مع مجئ الانقاذ، تم احداث قطيعة تامة مع كل هذا التراث، ولتبدأ تدشين مرحلة جديدة عنونها العريض ايديولوجية دينية مبتذلة، عسكرة الحياة وامننة الانشطة المجتمعية واطلقت العنان للفوضي والفساد وملأت الفضاء بالارهاب. وهو ما يبيح القول انه مع وصول الانقاذ بنظامها المتخلف الي سدة السلطة، أُسدل الستار علي السودان بشكله القديم، اي سودان محجوب وجيله، بتجاربهم الثرة والحياة الزاخرة بالانشطة المجتمعية الحية والظروف الاقتصادية الاقرب للاكتفاء والخالية من الضغوطات المعيشية.
اي كانت هنالك حياة مستمدة من بنيات وضعها الرعيل الاول، تنهض علي قيم سياسية ليبرالية وصحافة حرة وخدمة مدنية كفؤة، مع تقاليد مجتمعية محافظة تقوم علي التكافل والتراحم. واذا كان المشؤوم الترابي هو من ابتدر مشروع تخريب تلك الحياة، فان المجرم حميدتي هو من اجهز علي ما تبقي من منجزات الرعيل الاول المحايث للاستعمار.
ومرة اخري نصطدم بواقعة ان رحيل محجوب استصحب معه رحيل كل ما يجسد حياتنا التي تعارفنا عليها، وسهرت عليها اجيال متعاقبة. اي رحيل محجوب هو بالضبط رحيل للسياسة والصحافة والثقافة، او بالاحري رحيل للمنظور الشامل الذي شكل وعينا السياسي وقيمنا الثقافية وتقاليدنا المجتمعية. ويبدو ان الاصرار علي التمسك باهداب ذلك المنظور الشامل الذي اصبح متقادم، او تم استنزافه بضربات الانقاذ المتلاحقة. هو ما جعل كل المقاربات المطروحة من النادي السياسي لمعالجة الازمة الراهنة، وقبلها لادارة المرحلة الانتقالية، باءت بالفشل. وبكلام واضح، السياسيون يصرون علي تسييس بيئة ذات طابع عسكري بل ومليشياوي، واستبدال قيم كيزانية (انا او الطوفان) بتعبيرات مدنية ليس لها وجود علي ارض الواقع!
قد يكون من المؤلم التذكير بطرد السياسة والسياسيين من الفضاء العام، وتاليا من ساحة التاثير الفعَّال، منذ استيلاء الاسلامويين بمنهجهم الاقصائي علي السلطة بطريقة عسكرية. ولكنه ليس اكثر إيلام من خداع الذات بالحرث في بحر التغيير او بناء قصور رملية من خيال التحول الديمقراطي. من دون كف العسكر من التدخل في السلطة، وهو ما لا يبدو متاح قريبا، خاصة اذا علمنا ان العسكرة لدينا وسيلة للسلطة، قبل ان تكون لدواعٍ عسكرية او امنية تتعلق بحماية الدولة او توفير الامن للمواطنين، كما يُستشف نظريا من مبرر وجودها! وهذا بدوره يشير الي ان نتائج هذه الحرب في كل الاحوال، لا تفعل اكثر من تاكيد المؤكد من تهميش للسياسة وإبعاد للسياسيين! اي لو انتصر احد الطرفين او تحالفا مجددا او لم تنتهِ الحرب واستمرت في القتل والتدمير.
وفي هذا السياق يحسب للبروف مهدي التوم وهو بشكل او آخر ينتمي لجيل الراحل محجوب صالح، ان انتبه منذ وقت مبكر الي ضرورة التدخل الخارجي، والامم المتحدة علي وجه الخصوص، وغض النظر عن الكيفية التي يضطلع بها العالمون بمجاهلها؟ علي اعتبار انه وفي ظل سيادة معادلة العسكرة، واستحالة كسرها سلميا، لا محل للسياسة وتاليا مراعاة مصالح المواطنين بمسؤولية. ولذلك اذا كانت هذه الدعوة غير ملحة قبل الحرب، فهي بعد الحرب الوحشية الراهنة، ومن قبل اطراف لا تضع اي اعتبار للمواطنين والبنية التحتية، بل ويتم توظيفهما في هذه الحرب القذرة، فقد اصبح مبرر التدخل اكثر الحاحا او مسالة حياة او موت، اي مرتبطة ببقاء المواطنين والدولة نفسها. كما ان التدخل اذا ما تم بطرية جيدة قد يكون هو الوسيلة الوحيدة المتبقية لعودة السياسة والسياسيين لساحة التاثير بطريقة فعَّالة، بدل توظيفهم من قبل العسكر لتمرير اهدافهم المعادية لمصالح الوطن والمواطنين. اي باختصار ليس هنالك حل سياسي لمشكلة عسكرية تستهدف الاستيلاء علي السلطة، كما تشتهي المقاربات القديمة، التي بدورها توفر دور للسياسيين ولو شكليا. وهي ذات المقاربات القديمة التي تتحدث عن مبدأ السيادة من قبل القتلة المجرمين، وهم يتناسون ان السيادة نفسها تشترط الشرعية التي لا تتوفر لاحد، بل هي نفسها مغتصبة من قبل القتلة الذين يتشدقون بها بغباء وابتذال يدعو للرثاء. وحتي لو افترضنا ان للتدخل مضاره او ان تجربته فشلت في اماكن عدة، فهو ليس اكثر ضررا من عملية الابادة ونذر المجاعة التي تهدد المواطنين الابرياء راهنا. كما انه لا يحمل مضار علي مستقبلهم اكثر مما يحمله استمرار هذه الحرب الوحشية بوتيرتها التوسعية. وعليه، علي السياسيين توجيه جهودهم نحو الدعوة للتدخل الدولي وتذليل عقباته وجلب الاهتمام للقضية السودانية، بدل اضاعة جهودهم في الدعوة لوقف القتال بين طرفين لا يختلفان عن بعضهما سواء في الدوافع التسلطية او عدم الاكتراث لمعاناة المواطنين.
ويبدو ان المادة المخصصة لرثاء الجميل محجوبنا، قد تحولت لرثاء الوطن الذي لطالما احباه، ولكن كما سلف ان امتزاجهما جعلهما وكانهم كيان واحد. كما ان جهود حبيبنا ومصدر فخرنا صاحب القلم الذهبي الراحل محجوب صالح، واسهامه الصحفي كصاحب مدرسة صحفية، اخرجت اجيال تحولوا بدورهم لاساتذة لخلفهم، قبل ان يحافظوا علي ارثه في انتاجهم، امثال الدكتور زهير السراج والدكتور مرتضي الغالي وغيرهم من الاساتذة الاجلاء، كنا كثيرا ما اطنبنا فيه، في كل تناول لسيرته العطرة. ولكن ذلك لا يمنع العودة لعقد المقارنة بينه ومحمد حسنين هيكل احد رموز الصحافة في مصر. وهي مقارنة تنصف محجوب من جهة التزامه جانب الخط الديمقراطي رغم الكلفة الباهظة التي دفعها كضريبة للعمل في بيئة الانقلابات العسكرية (لذلك استحق جائزة القلم الذهبي). اما محمد حسنين هيكل فتفوق من جهة تحويل الاهرم من مجرد صحيفة تخدم السلطة، الي مؤسسة بحثية كاملة تقدم الخدمات المعلوماتية والنصائح الاستراتيجية للدولة المصرية، وهذا غير تطور وتشعب دورها الاعلامي بالطبع. بدليل ان منتسبيها المختصون في الشان السوداني يحيرون من شدة المامهم بتعقيدات القضية السودانية (نموذج دكتور اماني الطويل). ومؤكد ان رسوخ الدولة المصرية كؤسسات والاستقرار السياسي الذي تشهده، اسهم بدور كبير في ذلك، عكس الدولة السودانية التي لا يُعرف لها راس من رجلين، من كثرة الانقلابات العسكرية والحروب الاهلية، حتي وصولها مرحلة الاجهاز عليها بواسطة حرب الجهلاء ضد السفهاء الراهنة.
اما ما يؤسف له، ان من منح عمره الوطن من اجل رفعته وانسانه في سبيل خدمته، قد رحل وفي نفسه غصة من تحطيم احلامه وتبديد جهوده، والم ممض مما يصيب الوطن من دمار شامل. وهذا غير ان هذا الوطن الذي كان يوصف بارض المليون ميل مربع، لم يفسح له مجرد مترين في متر لاحتواء جسده الطاهر، ولم تُغبر ارجل مواطنيه ليمنحوه النظرة الاخيرة ويذرفون الدمع الهتون علي حواف قبره، ليخفف عنهم المصاب الجلل.
واخيرا
شكرا جزيلا رمزنا محجوب محمد صالح لكل ما قدمته، ونردد علي لسان حميد قول للموت سلام لا يغشاك شر، وانت تغادرنا كعم عبدالرحيم تحمل عبء وطن تنوء عن حمله الجبال. وككل الرجال الصالحين يظل قبرك رطب بدعوات الطيبين. ونسال الله ان يتغمدك بواسع رحمته ويكفلك برعايته ويجازيك خير الجزاء لما قدمته من جليل الاعمال تليق بهمتك العالية وصبرك الجميل وروحك السمحاء. واحر التعازي لابنك وائل وبقية افراد الاسرة الكريمة، ولزملاءك في صحيفة الايام وبلاط صاحبة الجلالة الورقية والالكترونية. وانا لفراقك يامحجوب لمحزونون ولسانا يردد باسي انا لله وانا اليه راجعون. ودمتم في رعايته.

 

آراء