عن (البناء المؤسسي) للدولة

 


 

بلّة البكري
27 January, 2023

 

بَلّة البَكري (*)

27 يناير 2023م
"أقصر الطُرق لإنجاز أي هدف هو العمل نحوه بصورة صحيحة"
قولٌ مأثور

البناء المؤسسي للدولة
الدولة العصرية تتطلب بناءاُ مؤسسياً عصريا على المستوى (السياسي) و(القانوني) و(الإداري). بدأ (البناء المؤسسي) في دول ما يعرف بالعالم الأول، في أوربا الغربية، منذ آلاف السنين. وقد مرت هذه الدول بفترات حرجة في تاريخ شعوبها، منها غزوات خارجية وحروبٌ أهلية داخلية وحروب عالمية طاحنة وتقلبات سياسية وثورات صناعية وثقافية وإجتماعية؛ تطوّر على إثرها نظامهم المؤسسي وخُلقت له عديد المرتكزات التشريعية اللازمة التي سندته عبر السنين وتظل تسنده إلى اليوم. وقد تطوّرت هذه النظم المؤسسية تطوراً كبيراً وأصبحت بالغة التعقيد، تصعب فهمها الإحاطة التامة بها بدقة، لمن هم خارجها، دع عنك نقل التجربة والاقتداء بها في الدول النامية. في هذا الصدد لا يعنينا من هذه الأنظمة في العالم الأول الآن إلا الإشارة إلى أنّ التمثل بها لا طائل منه، فيما نرى. وأن محاولة العمل على هديها، تصبح مهمة شاقة لدولة نامية. هناك أيضاً دول في شرق آسيا اعتمدت على إرثٍ حضاري قديم بلغاتها الأصلية، نهض بها من الداخل ولم تجد حاجة لأن تقتدي بغيرها في اللغة أو في النظام الإداري لتمسك بأسباب الحداثة والتطور. من هذه الدول كوريا ( بشقيها الشمالي والجنوبي) واليابان والصين وتايوان؛ وهذه تستثنى من المقارنة لهذا السبب. أما دول أمريكا الجنوبية والوسطى فهذه تعاني عديد المصاعب في محاولة العمل بما تركه المستعمر الإسباني من أنظمة سياسية وإدارية تعتمد، في الأساس، على اللغة الإسبانية؛ فيما عدا البرازيل والتي تسود فيها اللغة البرتغالية ولها أيضا صعوباتها. هذه الدول أيضا تستثنى لذات السبب والفوارق اللغوية التي بنيت عليها أنظمتها. بقي، إذن، الالتفات الى الدول حديثة التكوين، والتي كانت تحت الاستعمار الإنجليزي، وهذه تشمل الولايات المتحدة الأمريكية (USA) وكندا وأستراليا. كندا وأستراليا خرجتا من الاستعمار في القرن العشرين فقط؛ أي قبل أقل من مائة سنة في حالة كندا (1931م) وأكثر قليلاً من المائة عام في حالة أستراليا (1901م). بل إن كندا لم تمنح سلطات سيادية تشريعية مستقلة عن المملكة المتحدة حتى عام 1982م. هذا بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي سبقتهما في تجربة الخروج من الاستعمار الإنجليزي في عام (1776م). هذه الدول شقت طريقها لتصبح رائدة في العالم وانضمت في زمن قياسي لنادي دول العالم الأول؛ بل أصبحت تقود المستعمر، ذات نفسه، وتخرج له لسانها في شتى محافل التطور البشري والإقتصادي والعلمي والتقني وفي الرفاه لإنسانها والعيش الكريم. هذه دول يمكن لنا النظر في تجربتها في (البناء المؤسسي) المرتقب للدولة السودانية. ليس صعباُ أن ندرس كيف نجحت هذه الدول في (البناء المؤسسي) وماهي عيوب أنظمتهم السياسية والإدارية والقانونية (وهذه يمكن تفاديها). لابد أن ننظر إلى كيف يمكننا التعلم منها في خلق (بناء مؤسسي) عصري ومستدام لبلدنا. ومعروف أنه لابد لأي بناء مستدام من أساس متين. نريد بناءا مؤسسيا متينا يصبح مفخرة لأبنائنا وأحفادنا. ماذا ينقصنا في هذا الصدد، ومن أين نبدأ؟ مجرد طرح مثل هذه الأسئلة هو البداية الصحيحة، فيما نرى، للخروج من المأزق التاريخي الذي نحن فيه.

كندا واستراليا، خصوصاً، ربما كانتا الأقرب في المقارنة. هنا قد يقول قائل "مهلاً، إتق الله يا هذا وأنظر حواليك وقارن أين نحن الآن وأين كندا واستراليا". نعم هذا قولٌ مشروع، ربما، خاصةً في ظل ظرفنا الراهن ونحن نرى من كانوا سبب الفشل وإدمانه، عبر السنين، يصطفون مجدداً لمواصلة المزيد منه. بيد أنّ (التغيير الجذري) لابد له أن يبدأ من الجذور وإلا صار تغييرا سطحياً لا ينفذ أثره للعلة التي يبتغي علاجها. وعندنا، في أفريقيا في دول الجوار، تجربة رواندا التي خرجت محطمة من هول فاجعة حربها الأهلية الدامية في التسعينات وهي الآن تسير بخطي ثابته نحو المستقبل الواعد لشبابها وأهلها. وقديما قالوا: "أقصر الطُرق لتحقيق أي هدف هو العمل نحوه بصورة صحيحة". لا ينبغي، إذَنْ، أن نسمح إطلاقاً لأنفسنا أن نقضي 67 عاما أخرى من التخبط والعشوائية والحروب والسير في الظلام. إنه ظلامٌ دامس مخيف، أفرخ كل هذه الأهوال التي نراها أمامنا: تعدد جيوش ولوردات حروب وسيولة أمنية مفرطة تهدد الناس وممتلكاتهم في البدو الحضر. ذكر لي معلقٌ على أحد مقالاتي مؤخراً إنه إذا "جَمعنا عدد الفرقاء والجنرالات في الجيش والأمن والدعم السريع والشرطة ثم أضفنا إليهم الرتب العليا من الجبهة الثورية وجبهات تحرير السودان سنجدهم أكثر من جنرالات الجيش الصيني! وكلهم، بدون فرز، يريدون جبر الضرر والتعويضات قبل المشروعات المنتجة والسكن المعقول والمراكز الصحية والمدارس الأولية والصناعية والمهنية والقري الآمنة لعودة النازحين واللاجئين ". ظللنا نتخبط وندمن الفشل حتى أضحت مدينتنا الوحيدة (العاصمة المثلثة) تكاد أن تصبح غير صالحة "بيئياً" للسكن العصري دع عنك بقية ما يسمى مدن في السودان والتي تنقصها أبسط مقومات التخطيط السليم والخدمات الضرورية. أما الريف السوداني، وضعف البنية التحتية الأساسية فيه فأمره مُخجل، وكفى.

لقد انشلت مقدرتنا في بناء بلدنا بينما تعمل خيرة عقولنا المؤهلة علميا ومهنيا أُجراء يبنون دول غيرهم خاصة في الجوار العربي وفي بعض دول العالم الأول. في هذا الحلقة من حديثي عن (البناء المؤسسي) للدولة أقدم فقط رؤؤس مواضيع للعمل عليها فالأمر يحتاج إلى ثورة ثقافية تنبثق – الآن - يؤمها الجميع ويتقدمها روادٌ مهنيون في مختلف ضروب المعارف والمهن متجردون يسخرون العلم والخبرات. فهذا المشروع يحتاج الى حكومة مرحلية لها القدرة على النظر الى الأمام بعقود زمانية وليس لعام أو عامين ولها قادة مؤهلون مهنياً وأخلاقياً للقيام بهذه المهمة العظيمة. فيجب، إذن، أن تكون قبلتنا للتعلم من تجارب الآخرين هي الدول حديثة التكوين وبعض الدول النامية التي نجحت في استخدام ما تركه المستعمر وطورته ليلائم بيئتها وتعدد لغاتها الرسمية؛ بل منها ما جعلته أفضل مما هو لدى المستعمر في بلدِه. ولنا في تجربة بعض دُول النمور الآسيوية مثالاً يحتذى. كان يمكن للسودان أن يكون من ضمن هذه المجموعة الأخيرة لو حافظ آباؤنا المؤسسون على ما تركه المستعمر ب (اللغة الإنجليزية) وطوروه بإضافة (اللغة العربية) إليه وجعلوه نظاما تعليمياً وإداريا حيّا (بلغتين) يمكن الاستمرار في تطويره ليواكب العصر واستخدامه بأي من اللغتين. لم يفعلوا ذلك ولكنهم حرصوا على الابتعاد عن ما تركه المستعمر وانشغلوا عنه بالدستور الإسلامي والتعريب والتقرب من النادي العروبي الذي يرفضهم سراً وعلانية؛ بل هناك من أعضاء هذا النادي من ينادي بطردهم وإبعادهم منه، لأنهم زُنجٌ لا يشبهون العرب!

هناك شعوب في جنوب شرق آسيا عانت ويلات الاستعمار ولكنها خرجت منتصرة وأمامنا تجربة هونغ-كونغ وسنغافورة والتي هي جديرة بالدراسة؛ لقد حوّل قادتها ما تركه المستعمر في الخدمة المدنية الى أفضل من نظيره في العالم الأول. كل هذا يتطلب حكومة تعي مسئوليتها التاريخية في (البناء المؤسسي) للدولة وتعرف الطريق إليه؛ لأنّ ما لدينا الآن لا يصلح وكفى. (البناء السياسي) عندنا معطوب تماماً وقد فشل في استيعاب حاجتنا بل تم تشويهه عبر الحقب. فكرة الدولة التي يديرها رئيس وزراء (تنفيذي) على النهج البريطاني ومجلس سيادي في حاجة الى إعادة نظر فاحصة. كما أنّ التشبث بنظام تعليمي وإداري بُنى على اللغة العربية فقط بكل مراحله يقصر عن المطلوب للمواكبة العصرية. الإدارة المركزية للدولة لا تصلح لبلد مترامي الأطراف كما هو الحال عندنا.

وقد جاء في مقال منشور، في أغسطس 2020م، للبروفسير مهدي أمين التوم بعنوان "الولايات المتحدة السودانية مشروع قومي مقترح" قوله: " ----- ورضوخاً لحقيقة ظللنا ننكرها دهوراً بأن أهل السودان أمة هشة مكوَّنة من شعوب متباينة ثقافياً و عرقياً ، ظلت متعايشة مع بعضها البعض دون إنصهار حقيقي، ودون قبول أو ثقة مطلقة بين بعضها البعض—" انتهى. وقد كان لنا شرف المشاركة في نقاش قصير لهذا الأمر ضمّ نفراً كريماً من كتاب الرأي في منتدى عامر محضور. وسأنقل أدناه، بتصرف، ما جاء في ردنا عليه. "....... لقد أضحى أمر الحفاظ على السودان، أو ما تبقى منه، موحّداً أمراً مقلقاً لكل مهموم بالشأن العام. وقد أصبتَ كبد الحقيقة بقولك، وهذا صحيح؛ بل إنّ الآباء المؤسسين قد غضّوا الطرف عن هذه الحقيقة الهامة ما أضاع علينا عقوداً من الزمان ظللنا خلالها تائهين نتشبث بالانتماء للعروبة ونسوق إليها بقية شعوب السودان على اختلاف مشاربهم حتف أنفهم. قاد هذا وغيره الى الحرب والتي ظلت مشتعلة خلال نصف قرن كامل من عمر الدولة الوليدة. يضاف إلى ذلك عظم مساحة القطر المترامي الأطراف. فمثلث حلايب فقط يعادل مساحة أكثر من خمس دول مجتمعة لها أعلامها تشمل سنغافورة وهونغ-كونغ وقطر والبحرين ولكسمبرج ومساحة ولاية صفيرة كولاية سِنّار (مثالا) تفوق مساحة بلجيكا، وقس على ذلك. كل هذا يدعو للتفكير خارج الإطار. طريقة الحكم ب (ولايات متحدة ) في نظام فدرالي موجودة في دول أخرى يمكن الاستفادة من تجربتها في الحكم؛ مثل استراليا والتي ربما كانت أصلح هذه الدول للاقتداء بتجربتها مع مراعاة خصوصية بلادنا.

-ونواصل -
(*) مهندس (CEng FICE) وكاتب في الشأن السوداني
ballah.el.bakry@gmail.com

 

آراء