كارثة درنة ووعي السودانيين المفاجئ بالسد الإثيوبي

 


 

 

د. محمد عبد الحميد/استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
تكاد تحكي كارثة مدينة درنة الليبية مأساة تنتظر أهل السودان النيلي بتفاصيل أكثر رعباً، ومصيراً أكثر قتامةً، وعاقبة وخيمة تحدق في مستقبلهم، وتتوعدهم بمنقلبٍ وبيل.
كانت آمال الليبيون عراضاً عندما شيدوا سدودهم في وادي درنة لتقي المدينة عواقب كارثة الفيضانات الموسمية التي تنوشها من موسم لآخر. فقد شيدوا سد البلاد بسعة 1.5 و سد أبو منصور بقدرة استيعابية لحوالي 23 مليون متر مكعب، ويجدر هنا ملاحظة أن تشييد هذين السدين هما خيار وطني ليبي داخلي. جاءت كارثة هذا العام سبتمبر 2023م ليجد الليبيون أن هذين السيدين قد ساهما مساهمة أساسية في الكارثة غير المسبوقة التي أهلكت ثلث المدينة.
يمكن تحليل كارثة مدينة درنة من منظور علم إدارة مخاطر الكوارث بأنها ناتجة عما يُعرف بالأخطار المتراكبة Cascading hazards فقد كان الخطر الأول هو إعصار دانيال القادم من أوربا بعد أن ضرب اليونان، تركيا وبلغاريا، ثم ما صحبه من رياح وأمطار غزيرة ثم وأخيراً إنهيار السدين بعد أن فاقت المياه قدرتهما على التحمل فإنهارا تحت ضغط مياه تجاوزت 30 مليون متر مكعب أي بأكثر من قدرة السد الأكبر بما يفوق الخمسة مليون متر مكعب. وبذلك تحولت الأمطار لطوفان جرف أجزاء واسعة من المدينة للبحر.
اللافت للنظر أن كارثة مدينة درنة قد خلقت وعياً وإهتماماً مفاجئأ لدى الكثير من السودانيين وأخذ بعضهم يتساءل حول ما يُمكن أن يحدث للسودان حال إنهيار السد الإثيوبي.. وهذا في حد ذاته يمكن أن يُعتبر نقلة مهمة تجاه المخاطر التي تكمن وراء هذا السد. وإن كانت على لا تعتبر إدراكاً حقيقياً لمستوى تلك المخاطر، ذلك أن أهل السودان قد تعرضوا لحالة من تغييب الوعي بصورة منظمة تركزت كلها في فوائد كبيرة منتظرة من السد. وقد تبنت الحكومة السودانية على عهد البشير هذا الإتجاه بل وحركته عن عمد وتحمست له كأنه فتح رباني ساقه الله للسودان، ولم تختلف حكومة حمدوك عقب ثورة ديسمبر المجيدة عن هذا التوجه وإن بحماس أقل غير أنه لا يقل في كثافة سيلان اللعاب مما يمكن أن يحصل عليه السودان من "فوائد".
إجمالا وعلى عموم الأمر يمكن القول أن الوعي المفاجئ الذي أحدثته كارثة درنة يمكن أن يؤسس عليه ما يمكن تسميته بإعادة النظر فيما يمكن أن يكتنف السد الإثيوبي من مخاطر بصورة أكثر جدية من مجرد رفع حاجب الدهشة وأعمق من مجرد الشعور بالقشعريرة عند استثارة غريزة البقاء. ذلك أن الوعي بالمخاطر هو عملية عقلية محضة تضطلع بتقييم شامل لمشروعات التنمية، فإذا أكدت عملية تقييم المخاطر أن مشروعاً ما ينطوي على مخاطر غير مقبولة Unacceptable risks وجب رفضه ليس فقط من متخذ القرار، وإنما من مجموع المواطنين المعنيين بالأمر في المقام الأول... وتُجري عملية تقييم المخاطر دائما وفقاً لما يُسمى في أدببات علم الحد من مخاطر الكوارث Disaster Risk Reduction بقياس الإحتمالية والأثر بمعنى إن كانت احتمالية المخاطر متدنية والأثر كارثي وجب رفض المشروع، وهذا بدوره يُسمى في ذات العلم بالقرار المبني على معرفة المخاطر Risk informed decision وهذا ما لم يحدث إبان حكم البشير ولا حتى أثناء حكومة الثورة حيث لم يخضع مشروع السد الإثيوبي لأي نوع من تقييم المخاطر الي هذه اللحظة.
هنالك نقطة مهمة يجب التركيز عليها وهي ما أخذ يردده المسؤولون الليبيون في أعقاب الكارثة من جملة (لم يكن احد يتوقع ما حدث في درنة) هذه الجملة تعكس مستويات الغفلة عن المخاطر، وذات الشيء ينطبق على الجانب السوداني الرسمي حيال السد الإثيوبي وهذا تجسيد للغفلة التي تسبق الكارثة تماما كما حدث في درنة.
فوق أن علم الحد من مخاطر الكوارث هو التوقع والاحتمالات ، فإنه يؤكد على أن للمخاطر دينامية خاصة بها يجب توضيحها هنا، فهي مرتبطة مباشرة بطبيعة الحكم Governance فإن كان الحكم راشدا صار إدراك المخاطر جزءاً من حركة وعي حقيقي وبتالي ترتفع مستويات القدرة على الحد من المخاطر (بالتوقع) وتقل هشاشة المجتمع وتزيد إمكانية المرونة Resilience فيتم الحد من خسائر الكوارث. والعكس صحيح كلما كان الحكم غير راشد زادت المخاطر (بالغفلة عن التوقع) وارتفعت مستويات الهشاشة وانخفضت المرونة و زادت خسائر الكوارث.
إن ما حدث في درنة من كارثة لا يمكن أن يُقرأ إلا في هذا السياق. سياق الحد من مخاطر الكوارث وكيف أن الحكم غير الراشد أثر في مستوى المخاطر بالغفلة لدرجة جعلت السدود التي تم تشييدها لحماية المدينة تسهم في هلاكها بتلك الصورة الكارثية التي شهدها العالم بأسى.
ربما يكون من المفيد التذكير مجددا أنه وطالما صادف أهلَ السودان وعي أولي بما يمكن أن يكتنف السد الإثيوبي من مخاطر فإن عليهم أن يعملوا بمقتضيات ذلك الوعي ويبحثوا فيما وراء السد من نوايا سياسية، ويتساءلوا عن دراسات أمان السد. وتمتد سلسلة التساؤلات حول المغزى من سعته البالغة 74 مليار متر مكعب في حين أن المنطقة لا تتحمل أكثر من 13 مليار متر مكعب.. وما هي أسس الحكم الراشد التي تتمتع بها دولة كإثيبويا تتحكم في مفاعيل سلطتها سياسة العرقيات Politics of ethnicities لكي تدير سدا بهذه الضخامة يرهن مصير أمةً بأسرها.
د. محمد عبد الحميد

 

آراء