كليلة ودمنة (احد الفصول الضائعة)

 


 

 

عبدالله مكاوي
abdullahaliabdullah1424@gmail.com

بسم الله الرحمن الرحيم
العنوان يحيل علي شعار حفل افتتاح كاس آسيا بقطر. وهو تظاهرة احتفالية مرتبطة بالبطولات الدولية الرياضية، ومن ثمَّ اصبحت لها تقاليدها التي تعكس الوجه الثقافي للدولة وما بلغته علي سلم الرفاه والتطور. خاصة بعد ان تحولت الرياضة لصناعة مواكبة لروح العصر التقنية والمالية.
وبعد ان ابهرت قطر العالم بتنظيم فخم لكاس العالم، ها هي تبتكر في هذه الاحتفالية رؤية معاصرة لقصة تاريخية شهيرة، ذات مغزي للعبرة والاتعاظ (كليلة ودمنة)، لتقدمها باسلوب عصري وطريقة مبهجة.
ورغم انبهاري بذكاء الاختيار وبراعة الاخراج، وما يمكن لتوافر الموارد ان تقدمه للابداع الخلاق، إلا انني لا اخفي عدم استيعابي للعمل ككل. واحتمال ذلك يرجع لغرابة الموضوع، او للهجة المقدمة بها الاحتفالية، او لعدم التخصصية كالمهتمون بالفنون، ولكن المؤكد ان سوء المزاج وحالة الكآبة العامة التي تطوف علي السودانيين في كافة ارجاء المعمورة، لعبت الدور الاساس في ذلك.
اما قصة هذا الفصل، فترجع الي ان الملك طلب من الفليسوف بيدبا، ان يصف له عواقب الاستهتار بالملك، وتولي من لا يصلح من غير وجه حق.
وبعد ان اعتدل الفيلسوف في جلسته ومسح علي لحيته وتاوه طويلا، قال للملك الم تسمع حكاية الضبع الابله والقرد الموتور؟ فقال الملك لم اسمع بها، وادعوك للتفضل بسردها.
فشرع الفيلسوف في سرد الحكاية، التي ابتدرها بانه في سالف الازمان، كان هنالك ضبع ابله وقرد موتور جمعت بينهم صداقة، في منطقة نائية علي اطراف المملكة. وسبب الصداقة ان الضبع الابله أُرسل لتلك المنطقة الهادئة واصحابها الطيبون، لاخماد بوادر تذمر من بعض المشاغبين. وهذا التكليف صدر من اللبوة الملكة، بحجة ان التذمر يقلق منامها ويفسد عليها بهجة الرقص والاحتفالات، التي اعتادت عليها، تاركة شئون المملكة لبطانتها الفاسدة، مع عدم الاكتراث لاحوال الرعية البائسة.
وكان القطيع داخل المملكة يستغرب كيف ل(لبوة) بكل هذا الغباء وفقدان المروءة واستمراء الكذب، ان تتولي شئون الملك؟ وقبلها كيف تدعي انها ممثل شرعي لعرين الاسود، الذين لطالما اعلنوا بكل عنجهية، ان شئون المملكة حق حصري لهم، لا ينازعنهم فيه منازع إلا ناله من ما لا يرضيه؟!
المهم، يا سيادة الملك، ان هذه اللبوة الحاكمة علي هواها، فوضت الضبع الابله لاخماد الشغب بكل الوسائل دون الرجوع اليها. وهذا التفويض المطلق، ضخم من غرور الضبع الابله، حتي انه اطلق علي شخصه رب الغابة النائية! وبعد اعلانه عن ربوبيته، تبسم القرد الموتور ضاحكا، من انحدار الربوبية حتي وصولها الي درك هذا الضبع العجوز العاجز. وعندها فقط علم القرد الموتور ان علاقته بهذا الضبع الابله وما يحوزه من تفويض مطلق، وقبله اللبوة ما تملكه من سلطات مطلقة، ستمكنه من مصباح علاء الدين ومن مفاتيح مغارة علي بابا. ومن حينها وطد صلاته بهذا الضبع، ليشرعا معا في ارتكاب كافة انواع الجرائم والموبقات ضد ابرياء الغابة النائية.
وهذا الحلف ما كان لهو ان يترسخ وتتفاقم فظائعه، لولا مساعدة غراب البين الذي توسعت سلطاته ونفوذه بعد ان كان مجرد جاسوس. لدرجة تحوله الي صانع للجواسيس ومتحكم في المملكة حتي ظن انه وارثها. خاصة بعد ما لمس غراب البين وراي راي العين، ضعف وخواء وعدم اهلية اللبوة المترهلة. اما ما منح الحلف امتداد خارجي، فهي مشاركته في حروب الغابات المجاورة، وما اظهره من قابلية للاستعباد والاستخدام في المهام القذرة، وغيرها مما يسر الاسياد الاشرار الجدد.
وبسبب ان هذا الحلف عُرف عنه القسوة ضد المشاغبين والاحتكام علي معظم مصادر القوة، فقد شكل صمام الامان ل(لبوة) المسترخية، لدرجة تصريحاتها ان في وجود هذا الحلف القوي، حُق لها ان تمدد رجليها وتكشف عن عورتها وتغط في النوم باطمئنان.
ولذلك بعد احتجاج نبلاء القطيع علي اللبوة، تم استدعاء القرد الموتور لحسم الفوضي! وبعد ان علم المتآمرون من ذئاب وضباع وغربان، ان قمع الاحتجاجات مستحيلة دون كلفة باهظة تشوه صورة وسمعة الحكم، اكثر مما هي مشوهة اصلا. فقد لجأوا لازاحة اللبوة من واجهة الملك، والاستعاضة عنها بالضبع الابله والقرد الموتور، مع بعض الحيوانات الاليفة ذات السمعة الطيبة لزوم التمويه. وذلك لضبط امور المملكة في اتجاه المحافظة علي مصالح البطانة السابقة وامتيازات الحلف الجديد. اي تم التلاعب من خلال تغيير الملك والابقاء علي سياساته وممارساته وصولا للاحتفاظ ببطانته السرية والمتحكمة الاساس في شئون المملكة.
والحال كذلك، ما فات علي اللبوة الغافلة، ان الطيور علي اشكالها تقع، فهي كلبوة غادرة ومجرمة وفاسدة لا يمكن ان يقع اختيارها إلا علي مساعدين وحراس بذات المواصفات. ولذا عندما هاج قطيع الغابة ورفض اشبال الاسود والبلابل الصداحة والعصافير الملونة، مساخر اللبوة وفساد بطانتها وطريقة حكمها الظالمة. تم التضحية بها بكل سهولة، كثمن لبقاء الامتيازات والمصالح، لدرجة انتحالهم دور المعارضين ل(لبوة) وقادة للنظام البديل!
عذرا ملكنا لا نكون اثقلنا عليك بحكايتنا المثقلة بالغدر والجبن والاطماع الحقيرة.
صحيح يا فيلسوفنا هي حكاية مؤلمة، وكم هو شقي قطيع يتصدي لحكمه السفهاء من صعاليك الغابة ورممها.
ولكن الاسوأ هو القادم من الحكاية يا ملكنا المفدي.
اذا كان الامر كذلك فعليك ان تتطلف يافيلسوفنا وتقصر الامر علي الجزء المهم، حتي لا تفسد علي بقية اليوم، كما تفسد الحروب حياة الشعوب.
حسنا يا موالي، فهذا الحلف وقبل ان يصل لحل وسط يشرك معه الحيوانات الاليفة في الحكم، كحق مستحق لبقية القطيع. فقد تلوث بدماء العصافير الوديعة، بعد ان انشب مخالبه في جسدها الغض دون رحمة. ثم اعقبها بتنكره لوعوده للحيوانات الاليفة، رغم قسمه بشرفه ويده علي المصحف ليفي بوعوده، إلا انه عاد وانقلب عليها والقي بها في السجون واعلن استيلاءه علي المملكة منفردا. وهذا بالطبع ليس بغريب علي الضبع الابله والقرد الموتور وقطيع الذئاب وسرب الغربان، نسبة لتأصل المكر والغدر في طباعها.
وبسبب اطماع الذئاب وبقية بطانة القطيع المحيطة بالضبع الابله، ومن اجل الابقاء علي مكتسباتها المنهوبة وتاثيرها علي قرارات المملكة، وتعارض كل ذلك مع طموحات القرد الموتور وداعميه خارج المملكة، انفجر الصراع الدموي بين حلفاء الامس واعداء اليوم. لتدخل الغابة فصل محزن من اهوال الحرب وتبعاتها الرهيبة، سواء من ناحية تقويض اسس المملكة او ابادة القطيع وتشتيت شمله او ابتذال الملك بعد ان انحط، لمحض صراع احمق، بين ضبع ابله وقرد موتور!
وما زاد الطين بلة، ان الحرب تؤجج نيرانها قطعان من الذئاب، لم يُعرف عنها إلا التحريض واثارة الفتن، واستسهال الخوض في الدماء. في مواجهة خصوم من الكلاب المسعورة والضالة، لا يعرفون شيئا سوي الاجرام واستباحة موارد الغابة وحرمة القطيع، ونشر الارهاب والفوضي والخراب اينما حلو.
وما جعل هذه الحرب المدمرة تتسم بسمة خاصة، ان الضبع الابله وبسبب بلهه وطيشه وطمعه في الاحتفاظ بملك لا يستحقه، اصبح مطية للذئاب! وبما ان الضبع الابله يتحكم بدوره في قطيع الاسود الذين فرضو نفسهم اوصياء علي المملكة، ورفعو عرينهم لدرجة القداسة التي لا تقبل النقد، ناهيك عن الرقابة والمحاسبة! فقد اصبحت الاسود تحت رحمة الذئاب، وتاليا بقية قطيع المملكة وقع رهينة لحسابتهم الضيقة. والمؤسف ان الاسود بعد ان استطابو الطيبات وانخرطو في جوقة الملكة وتمرغو في نعيمها، اهملو واجبات حماية المملكة والاستعداد للاخطار، لتلحق بهم الكلاب المسعورة والقطعان الضالة هزائم مجانية، وكانها في حرب ترفيهية او تقوم بمجرد تمارين رياضية! والسؤال والحال كذلك، كيف لضبع ابله، تستغله الوحوش الضارية داخل المملكة وخارجها، ان يكسب حرب لصالح قطيع المملكة؟ بل يُلمح البعض من شدة ضعف وهوان الضبع الابله، بانه الشريك المستتر للكلاب الضالة، علي ان يُكافأ علي تدميره عرين الاسود والقضاء علي النبلاء في القطيع، بالبقاء في منصبه شكليا، والاصح كخادم (واجهة) للكلاب الضالة وداعميها (اسيادها) خارج المملكة!
وهنا تثاءب الملك وبدت عليها علامات الضجر والضيق، وكأنه ندم علي استدعاء هكذا حكاية مؤسفة، وطلب من الفيلسوف التوقف، او تاجيل بقية الماساة الي ظروف اخري، يستعيد فيه الملك لياقته الذهنية والنفسية، لولا ان الفيلسوف قبل امتثاله لاوامر الملك التي لا تُرد، استسمحه في اضافة مفارقة تهريجية قد ترد الابتسامة لمحيا مولاه المقتطب!
وهنا طالبه الملك المبتئس بالتعجيل!
وما كان من الفيلسوف بعد ان عدل من جلسته واعاد ترتيب هندامه وتنظيم ذاكرته، ان واصل حكايته قائلا:
ما جعل الصراع يتخذ طابع العبثية، ان القرد في سعيه لنيل المُلك، يصر علي انه الثعلب ويملك حكمة (الهدهد)، غصبا عن اصله الموتور، وطبعه الذي يحكم تطبعه. خاصة وان هذا الطبع يسفر عن وجهه الكالح، عندما يدافع القرد الموتور عن مصالحه او يخدم اطماعه او يحافظ علي وجوده.
ويصح ان القرد الموتور ما كان له ان يجد في نفسه الاهلية للملك وهو الفاقد لكل المؤهلات، لولا الخدمات الجليلة التي قدمتها له اللبوة المتخمة والضبع الابله، ولاحقا داعموه من خارج المملكة ومستشاروه من داخلها!
وكما تعلم من حالة خداع النفس تتولد المفارقات بذات القدر الذي تتولد به المآسي، اما قردنا الموتور وبسبب ان محرضيه وداعميه قذفوا به في لجة الطموحات العالية، من غير معرفة بفنون العوم، فقد كانت مفارقاته من النوع الذي يدعو للاسي اكثر من الترويح عن النفس، وما ارتكبته كلابه المسعورة وقطعانه الضالة من فظائع لن تستطع كل مياه البحار عن غسل عارها. وعلامة ذلك، ان قردنا الموتور كلما تحدث حديث العالم يعلن عن جهله الفاضح! وكلما حاول مجاراة روح العصر في لغته واسلوبه، اظهر كم هو في غيبوبة تامة عن روح العصر! وكلما حاول لعب دور الملك وهو القاتل الماجور، اعلن عن مهزلة الملك وانحطاط المملكة! وكلما حاول كسب ثقة القطيع بوعوده الحالمة وتصريحاته الناعمة، ارتدت قواته لاحط الممارسات وارتكاب اشنع الجرائم في حق افراد القطيع الابرياء. كما ان انتصارته السهلة علي قطيع الاسود التائهة، جعله يتنكر لاصله القردي الموتور ويرتدي جسد الاسد الهصور.
وتساءل الملك محبطا، ما مصير القطيع وسط هذه الاهوال؟
وهنا بدأ الاسي علي محيا الفيلسوف، وهو يصور مصير القطيع البائس وهو يقع رهينة حرب مُلك، لا ناقة له فيها ولا جمل، رغم انه من يدفع الثمن كاملا، من ارواحه التي اذهقت ومملكته التي دُمرت ومستقبله الذي نُذر للمجهول القاتم!
وتساءل الملك محتار من يدعم هكذا حرب جبانة علي مُلكٍ مغتصب، لا يستحقه لا الضبع الابله ولا القرد الموتورور؟ وكيف يوجد اصلا من يدعم امثال تلك الشياطين، ويتظاهر بالبراءة ومراعاة مصلحة القطيع؟!
فقال الفيلسوف من يدعم هؤلاء، هم بغاث الطير والخنازير آكلة الفضلات، وهم من تفرزهم كل مرحلة مُنحطة، ويُبتلي بهم كل مُجتمع منكوب.
وعند هذه النقطة تململ الملك في جلسته، واعلن صراحة عن المه وحسرته، علي مصير قطيع يقع تحت رحمة هؤلاء الوحوش الضارية. وذكر انه كم كان مخطئ عندما وصف هذا القطيع بالشقاء، لان ذلك الوصف بناء علي ان العدو العاقل مصيبة وان للحروب اخلاقياتها. إلا انه اكتشف ان اعداء القطيع في غاية الجهل والغدر والتجرد من كافة اخلاق الفرسان. الشئ الذي جعل مصيبة هذا القطيع مصيبتان، مما يبيح تصنيفه بانه اشقي القطعان.
ثم قال الملك مخاطبا الفيلسوف، لقد اثقلت علي اليوم بهذه الحكاية المبكية، ولو كنت اعلم مسبقا الشئ القليل عن مأساتها لما طلبت سردها، وارجو ان تكف عن مثل هذه الحكايات التي تعكر المزاج، ولكن ما كانت خاتمة هذه الحكاية التي تصف عاقبة الاستهتار بالملك والتفريط في الامن؟
وهنا بدت علي الفيلسوف سيماء الاحراج، وهو يذكر للملك خجلا ان هذا كل بلغه عن هذه الحكاية، رغم ان لم يدخر جهدا لمعرفة ما آل اليه مصيرها. إلا انه لم يخفِ خيبة الامل علي مصيرها الذي لم يعلمه، شأن كل فيلسوف خبر صراع الملك المسلح بين الجهلاء والمعتوهين.
اما الملك بعد ان نفد صبره وعذبه عدم معرفة خاتمة الحكاية، ما جعل شوقه يزيد لمعرفتها باي ثمن، اقلاه من باب الاحتياط لملكه من المفاجآت وبنات آوي والكلاب الضالة. فقد اقترح علي الفيلسوف وضع خاتمة مناسبة من بنات افكاره وخبراته، علي ان تكون اقل مآسوية، لان مزاج الملك بعد ان أُقتم بسبب الحكاية المحزنة، لا يصلحه إلا ما يرد الصفاء لذاك المزاج الملكي، ويا له من مزاج يؤدي اعتكاره لما لا يحمد عقباه.
اما الفيلسوف ولارضاء الملك فلم يجهد نفسه كثيرا، فحسب اعتقاده ان ايقاف الحرب مقدم علي عداه من الرغبات المتفاوتة بتفاوت تركيبة القطيع، وما عانه من اهوالها وخسره من جراءها. وبما ان الحرب اضعفت الجميع، ولكن يظل اقوي الضعفاء هم المتقاتلون اولا وداعموهم ثانيا. ومن ثمَّ هم بيدهم ايقاف الحرب. ولكن من دون مكاسب في الملك (سبب الصراع)، والذي بشكل او آخر يحافظ علي المكاسب ويهدهد المخاوف، لن يكتب لهكذا حرب وجودية بكلفتها الباهظة ان تقف.
ولحسن الحظ شعر الملك ببعض الارتياح، لهذه النهاية غير المرضية، ولكنها المتوافرة او اقصي ما يمكن الخروج به، من اهوال هذه الحرب المنذرة بفناء القطيع وذهاب ريح المملكة.
وفي نهاية الجلسة امر الملك للفيلسوف بكثير من العطايا قبل انصرافه، فاخذها الاخير عن غير قناعة ولكن لارضاء الملك، مع نية صادقة ببذلها في بناء دار للحكمة، تهتم بدراسة الوسائل الملاءمة لتخليص الشعوب من الحكام المستبدين والسياسات الظالمة، وكيفية تاسيس السلطة القويمة ووسائل السلطة المستقيمة، اللتان تقدمان الخدمات للمواطنين وتحافظان علي كرامتهم وتخضعان لرقابتهم ومحاسبتهم؟
واخيرا
ما بال الجيش لا يلتفت لمعاناة المواطنين المرعبة، وما يهددهم من اخطار تستهدف وجودهم! وكيف يتسني لهذا الجيش الحديث عن دفاعه عن حرمة المواطنين وامن البلاد، وهو يتخذ وضع اسوأ الاداء للجيوش، وهو الدفاع عن مقراته حصرا، وإلقاء عبء الحماية علي كاهل المستنفرين؟! والاسوأ من ذلك، رفضه لكل جهود التفاوض من مختلف الجهات، والتحجج بمطالب كاذبة كشرط للتفاوض؟! الا يعلم هذا الجيش ان اي يوم يمر علي هذه الحرب اللعينة والتي بلغت ما يزيد عن التسعة اشهر، هو اهدار لارواح بريئة وتدمير لبنيات حيوية وتهديد للمناطق الآمنة، وانغراس لمستقبل البلاد في رمال المجهول المتحركة؟! هل كل ذلك ارضاء لاطماع كبار الجنرالات في السلطة، ومخاوف الكيزان مما يتهدد مصالحهم ومصيرهم، مع العلم انهم السبب في كل هذه الكوارث؟!
اما ما يجب توضيحه للجيش، ان الجلوس للتفاوض دون شروط مسبقة، مع مليشيا الدعم السريع، لايجاد معالجات لايقاف هذه الحرب. هو امر يهم المواطنون في المقام الاول، لانهم الاكثر تضرر ودفع لاثمان هذه الحرب. كما ان الجلوس مع هذه المليشيا، لا يعني بحال من الاحوال منحها الشرعية. لان الاخيرة مرتبطة بالقبول المجتعي، وهو الامر الذي لن يتاح، وان انطبقت السماء علي الارض، لهذه المليشيا الهمجية بعد انتهاكاتها الفظيعة في حق المجتمعات الآمنة. كما انها في الاصل تشكيل حربي مخصص لنوع وحيد من الحروب، وهي الحروب القذرة. وعليه، هي الشر المطلق الذي لا يعد باي خير علي الاطلاق. ولكن ذلك لا يلغي انها القوة الشرسة والرئيسة علي الاض، والتي الحقت بالجيش هزائم مخجلة ولا حصر لها! كما انها قادرة علي تدمير ما تبقي من الدولة وابادة من لم يفر من الشعب، وهو ما لا يبدو انها ستتورع عنه اذا ما اقتضت مصالحها او مخاوفها ذلك. والحال كذلك، يصبح انكار هذا الوضع او محاولة الالتفاف عليه، والرهان علي تحولات تاتي من الخارج او ضربة حظ من السماء او البناء علي وعود وصمود ومواقف الكيزان الخائبة، هو نوع من الحماقة التي ستورد الجميع موارد الهلاك. وامام كل ذلك لا سبيل سوي التفاوض مع مليشيا الدعم السريع لايقاف الحرب، اقلاه من باب كف اذاها و شرورها وقطع الطريق امام تمددها للمناطق الآمنة، لتلحق بها من الاضرار ما لا يمكن جبرها. اما اذا كان الخوف من الثمن الذي يجب دفعه، هو ثمن باهظ، حتي تستجيب مليشيا الدعم السريع لايقاف الحرب، وادراك ما يمكن ادراكه من حفظ الارواح وتهدئة الروع والمحافظة علي ما تبقي من الدولة. فمها كان هذا الثمن فهو اقل من هذه الاضرار وتبعاتها. اما من جهة انتقاص ذلك من سمعة الجيش ومكانته ونفوذه وسطوته الموروثة، فما حدث هو نتيجة لاخطاء الجيش المتراكمة منذ ولوجه ساحة السلطة، فمن باب اولي ان يتحمل مسؤولية اخطاءه، بدل ان يحملها للمواطن، الذي ظل يدفع ثمن هذه الاخطاء من حريته وتنميته وحقه في الحياة الكريمة منذ الاستقلال. ودمتم في رعاية الله.

 

آراء