كيف نُكًرم عميد الصحافة السودانية الراحل التكريم اللائق؟

 


 

 

محمد المكي أحمد

في القاهرة التي تحتضن عددا كبيرا من السودانيين، رحل الى دار البقاء عميد الصحافة السودانية الأستاذ محجوب محمد صالح.

رحل بعيدا عن وطنه الأم الذي أحب، بعدما دافع بريادة وجسارة وحكمة ومهنية عن حرية أهل السودان وكرامتهم، وحقهم المشروع في العيش الكريم، وكان هذا تعبير عملي عن حب حقيقي ملموس، لا دفين.

استحق محجوب محمد صالح عن جدارة أن يضعه صحافيو السودان، وكل المنصفين في حدقات العيون، وأعني هنا أي انسان يحترم شرف الكلمة، واخلاقيات المهنة، ورسالتها النبيلة، وحق الناس في التفكير والتعبير، عن قناعاتهم ورؤاهم المتباينة.

كان وسيبقى عطاء فقيد الكلمة السودانية، وفقيد الحركة الوطنية مصدر إلهام لدى الملتزمين بالمعايير المهنية في بلاط صاحبة الجلالة (الصحافة) ومن يرفعون أعلام الحرية، والعدالة، والسلام ، ويدفعون بدون من أو أذى ثمن القبض على الجمر.

مسيرة عطاء وابداع الاستاذ محجوب متميزة، إذ انطلقت في الخمسينات، وتواصلت ايقاعاتها الى أن حانت ساعة الرحيل.

معلوم لدى دارسي تاريخ الصحافة السودانية والمطلعين على جذور نشأتها أنه كان رئيس تحرير صحيفة (الأيام) السودانية العريقة، وشارك في تأسيسها مع الرمزين الكبيرين بشير محمد سعيد ومحجوب عثمان .

كان محجوب محمد صالح خلال سنوات عطائه الصحافي والوطني صاحب قلم مهني رائع، وأيضا موقف واضح تجاه القضايا كافة. .

مقالاته و أعمدة الرأي التي كتبها عبرت عن قدرة فائقة على صوغ الحروف ،بمهنية عالية، وبنبض سوداني مشحون بحب الوطن والانحياز لقضايا الشعب وهمومه وتطلعاته، وكان خبيرا في عالم الصحافة، وخاض ساحات المهنة باللغتين العربية والانكليزية.

كان حمامة سلام حينما تدلهم الخُطوب..

لعلنا نذكر في هذا السياق ،على سبيل المثال دوره ومساهمته في سبيل تهدئة الأجواء حينما سعى بحكمته المعهودة ووقار شخصيته المحترمة الى المساهمة في ازالة أزمة واحتقان شديد ساد أوساط عسكريين ومدنيين ، خلال السنوات الماضية بالسودان ،في أعقاب نجاح الثورة السودانية، السلمية، الباهرة، في العام ٢٠١٩.

فقيدنا كان صاحب بصمات وطنية متعددة الأبعاد والمجالات ..

كان وسيبقى رغم الرحيل رمزا كبيرا من رموز الصحافة السودانية، و رمزا من رموز الوطن، وهو إنسان تميز بدواخل سودا نية خضراء..


من أسوأ انعكاسات الحرب الحالية أن السوداني أو السودانية حينما ينتقل الى رحمة الله في الخارج لا يمكن دفنه داخل وطنه ، مكان قبره أو قبرها بالخارج ، بسبب اضطراب الأمن وانتشار مسلسل القتل اليومي.

دائرة النزوح واللجوء والتشرد والبحث عن الأمن والاستقرار اتسعت باتساع شلالات الدم التي تراق حاليا في السودان في حرب أوجعت وأذلت، وأحزنت السودانيين أينما وجدوا.


رحيل وتشييع الرمز وأي إنسان بعيدا عن وطنه موجع.

الموت حقيقة كبرى..

قال تعالي في محكم تنزيله (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) ,

وقال (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذه مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا).

الايمان بقوله تعالى راسخ في القلب و العقل ، ورغم هذا فان تشييع الرمز وأي انسان داخل وطنه ووسط أحبابه يشكل مشهدا من مشاهد الحب والاحتضان والدعاء والتضامن والتكافل ، وفي ذلك رسالة مهمة ،وحيوية، لجيل اليوم و الغد. ،

في هذا السياق يبقى السؤال: كيف يُكرم الصحافيون السودانيون والكتاب الراحل الكبير؟


أرى أن الالتزام الصارم بالقواعد والمعايير المهنية في العمل الصحافي، مع احترام حرية التفكير والتعبير عن الرأي بمسؤولية تحترم عقول الناس يشكل أفضل اسلوب عملي لتكريم عميد الصحافة السودانية،.

نحن في زمن باتت فيه الكلمة مذبوحة وتقطر دما ، بسبب ممارسات بعض أدعياء المهنة ، ومن وجدوا في وسائل التواصل الاجتماعي ميدانا لبث السموم .

هؤلاء قتلوا الكلمة الصادقة المسؤولة، وأشاعوا مناخا لنشر الكذب و الضغينة وأساليب التضليل، ونهج الضلال ،

هؤلاء ضربوا الإعلام في مقتل، سواء خلال هذه الفترة ، أوفي كل مراحل الحكم الديكتاتوري، وحتى في فترات الحكم الديمقراطي التي استغلها مهرجون في غياب قوانين عصرية تنظم العمل الصحافي وتحميه من المخربين، كي لا يستبيحوا دماء الناس، ويمارسوا هواية طعن هذا الشخص أو ذاك في خصوصياته وداخل بيته، وحتى في دينه .

في مثل تلك الأجواء السيئة تتاح أوسّع فرص إطلاق الشتائم، والأكاذيب، وبث الأحقاد وسموم الكراهية والعنصرية، لأن النظام الفاسد المستبد يكره الحقيقة ويحاربها بشراسة، كما أنه يخلق بؤر صراع وفتنة في أوساط المجتمع ،متوهما أن ذلك سيطيل عمره ويحميه من غضب الشعب ..

كتب الزميل العزيز الأستاذ صدَيق محيسي، مقالة توثيقية رائعة عن الفقيد ، بعنوان ( أخر اهرامات الصحافة 1من 3 – محجوب محمد صالح ذاكرة بصرية) على صفحته في (فيسبوك) في اطار مقالات مهمة أتابعها منذ فترة ، وأدعوكم الى قراءتها.

صدًيق الزميل العزيز صحافي مخضرم وعريق وصاحب تجارب تاريخية في عالم الصحافة داخل السودان وخارجه، وكتاباته تصب في مجرى التوثيق، في زمن نرى فيه الكثير من أعمال التشويه للحقائق والناس.

نسب في توثيقه حروفا مضيئة للاستاذ محجوب محمد صالح، اذ قال " كانت " الأيام" جريدة مستقلة في خطها التحريري، وغير مستقلة في مواقف وآراء اصحابها ، كان تعريفنا للاستقلالية عدم انحياز ( الصحيفة) كمؤسسة لأي حزب سياسي ، أما محرروها فأحرار في خياراتهم السياسية، وملتزمون بصدقية الخبر ومهنيته ، وغير (محايدين ) تجاه القضايا الوطنية".

ما أروع هذا النهج ..

أرى أن أهم وأفضل تكريم لعميد الصحافة السودانية الراحل اليوم وغدا يكمن في التزام الصحافيين السودانيين بالمهنية وضوابطها ، واحترام حق الانسان في التفكير و ابداء الرأي بحرية ومسؤولية وبأخلاق مهنية، مع حق أي انسان في أن تكون له قناعاته السياسية.

المحك يكمن في ممارسة المهنة وفقا لمعاييرها واخلاقياتها، ويبقى تباين الرؤى والأفكار والآراء مصدرا لإثراء حياة الناس، وللمتلقي في النهاية حق الحكم على مهنية هذا الصحافي أو ذاك، وهل يتمتع بصدقية مهنية ومواقف وطنية منحازة لحقوق الانسان السوداني في الحرية والعدالة والسلام والعيش الكريم، أم أنه فاقد للصدقية، وغارق في أوحال التطبيل للطغاة ومنتهكي حقوق الانسان السوداني ؟

هنا يكمن التحدي الذي يثير أسئلته الملحة رحيل الأستاذ محجوب محمد صالح..

نسأل الله ان يتغمد فقيد السودان والصحافة السودانية بواسع رحمته ، ويسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ، بقدر ما قدم لشعبه من عصارة الفكر و الرأي السديد.

أعزي أبناءه وأسرته وأهله , وأحبابه في الوطن وخارجه، والزملاء صحافيي السودان من الجنسين، الذين تسابقوا لنعيه بدم القلب .
( إنا لله وإنا اليه راجعون)

لندن 14 فبراير 2024

modalmakki@hotmail.com

 

آراء