لم تزل الحرية بعيدة المنال .. الى الزميل كامل حسن محمود، في علياء الجنان

 


 

 

"مثل حيوان في محبسه مقطوع أنا
عن أصدقائي، محروم من الحرية ومن رؤية ذُكاء
لكن الصيادين ما انفكوا يثبتون أقدامهم على اليابسة
فلم يبق لي مهرب الى مكان في الهواء"
بوريس باسترناك**

حينما دخل مستشار السفارة البريطانية الى دار صحيفة الرأي العام طاويا عدد ذلك اليوم في يده (1) خرج زميلنا المحرر في الصحيفة من الباب نفسه ولم يعد إليها مطلقا. كانت الصحيفة قد نشرت في ذلك الصباح من العام 1965 مقابلة مطولة مع البارون آرثر بوتملي، وزير شؤون الكومنولث في حكومة هارولد ويلسون العمالية توعد فيها رئيس وزراء الأقلية البيضاء الحاكمة آنئذ في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي حاليا) بالويل والثبور وعظائم الأمور ان لم يرعو ويصرف النظر عن تهديده بإعلان الاستقلال من جانب واحد. تناقلت وكالات الأنباء تصريحات الوزير البريطاني، الذي كان في طريقه لإجراء مباحثات بالغة التعقيد مع إيان اسمث وأعضاء حكومته، أملا في الوصول الى حل مرض للبيض والسود من سكان البلاد ولإفريقيا وللعالم، ويخلي طرف بريطانيا، الدولة المستعمرة، عن أية تبعات تنجم عن مضي حكومة الأقلية في غيها.

توقفت طائرة هيئة الخطوط الجوية البريطانية عبر البحار، قبل ان تغير الشركة اسمها الى الخطوط البريطانية، في مطار الخرطوم لساعة أو نحو ذلك تتزود فيها بالوقود قبل ان تواصل رحلتها الى نيروبي ومن ثم الى سالزبورغ (هراري). لم تكن الطائرة التجارية ذات المدى البعيد مألوفة في ذلك الزمان، بل كانت الأساطير تُختلق عن طائرات حربية عملاقة واخرى للتجسس، كاليو تو التي أسقطها السوفيت في أول الستينيات، ونسج الناس حولها قصصا مسلية واخرى مروعة، ولكنها اتفقت كلها على مقدرة تلك الطائرات في المكوث الى ما لا نهاية معلقة بين السماء والأرض! كان على متن تلك الطائرة البارون بوتملي، يرافقه رئيس مجلس اللوردات يومذاك، اللورد غاردنر، الذي أحدث ثورة في القوانين البريطانية وادخل إصلاحات هامة في النظام القضائي والإداري البريطاني، حمل بعضها اسمه. بقي الاثنان وأعضاء وفدهما في الطائرة أثناء توقفها القصير في مطار العاصمة السودانية، ورفضا مقابلة الصحافيين أو الإدلاء بأي تصريح صحافي مكتوب. إلا ان الصحيفة السودانية نسبت الى الوزير البريطاني أقوالا سبكها صائغ ماهر، يصعب تكذيبها أو نفيها. فالتكذيب في هذه الحال يأتي بما لا تحمد عقباه، ولا يزيد النار إلا ضراما. لكن لابد للإنجليز من توضيح يذهب الحرج ويزيل الضرر الذي أحدثته المقابلة الوهمية عن مهمة الساعة قبل الأخيرة التي سعى هارولد ويلسون جاهدا ان تكون في قوة السحر، تجنب روديسيا مأساة ما برحت تسير من سيئ الى أسوأ حتى يومنا هذا؛ وكان قد رفض استعمال القوة لمنع اسمث ورهطه من التفرد بحكم البلاد والتسلط على غالبية العباد. لكن المهمة باءت بفشل ذريع ومضت الأقلية فيما عزمت عليه، وأعلنت الاستقلال من جانب واحد لتندلع حرب عصابات طاحنة أدمت قوات البيض ودفعت حكومتهم الى الرضوخ بعد انهار من الدماء وأكوام من الدمار. هل يكون مصير كوسوفو ذات المصير إذا ما أعلنت الحكومة القائمة الاستقلال من جانب واحد؟

كان زميلنا، مؤلف المقابلة، صحفيا لامعا وصاحب قلم سّيال وحرفيا بارعا تنقاد إليه الكلمات كيفما شاء. وهو إن لم يكن كاملا، مثله مثل البشرية جمعاء والمخلوقات كافة، إلا انه كان حسن الهندام والكلام أيضا، محمود المناقب. وكان من أوائل الصحافيين الذين ذهبوا الى أطراف الدنيا لينقلوا للرأي العام من عين المكان. ومازال الذين قرأوا له يذكرون تحقيقاته الصحفية عن جزيرة القرنفل زنجبار. ثم تبعه بعد ذلك الصحافي الكبير محجوب عثمان الى "مجاهل أفريقيا" لتعتقله حكومة إيان اسمث أياما يعود بعدها بسلسلة من التحقيقات بقلم صحافي سوداني عن رحلته تلك في شرق القارة. كانا سبّاقين في فتح أبواب الصحافة السودانية نحو آفاق أرحب والعمل الصحافي الى العالم الواسع، خارج مكاتب الجريدة، ودواوين الحكومة، ودور الأحزاب الضيقة.

كانت أزمة روديسيا امتحانا لقدرة بريطانيا على الوفاء بتعهداتها واختبارا لقيمها الأخلاقية والتزاماتها السياسية، كما كانت محكا لقدرة قيادات إفريقيا على الفعل، خصوصا بُعيد تأسيس منظمة الوحدة الإفريقية التي رأى بعض الناس فيها محاولة من عرابها، الإمبراطور هيلي سيلاسي الأول والأخير، لإجهاض أحلام راودت روادا مثل عبد الناصر ونكروما وموديبوكيتا وسيكوتوري، وأن تصبح هي صاحبة القول الفصل في ديمومة الحدود الموروثة عن الاستعمار وحرمة تغيرها. ولهيلي سيلاسسي مصلحة في ذلك حتى يحتفظ بإرتريا لا يراجعه في شأن احتلالها أحد.

حينما بلغت الأزمة ذروتها دعا الإمبراطور الى اجتماع لمنظمة الوحدة الإفريقية في عاصمته التي أصبحت مقرا للمنظمة. وافتتح أسد يهوذا الاجتماع بكلمة حملت التهديد والوعيد الى بريطانيا ان لم تحل دون إيان اسمث وما خطط له، ودعا الى قطع العلاقات مع الإمبراطورية العجوز التي لم تغرب عنها الشمس حتى ذلك الزمان. لكن زئيره لم يبلغ بحيرة تانا القريبة من أديس أببا ناهيك عن الفرات، ولم تتحرك شعرة في لبدة الأسد البريطاني. ولما جد جدهم "لحس" الإمبراطور تهديده وأبقى على علاقاته مع بريطانيا في حين التزمت دول اخرى بقرار قطع العلاقات ومن بينها السودان الذي نفذه في الثامن عشر من سبتمبر/أيلول 1965. ولم يعد السودان العلاقات مع المملكة المتحدة ولم يرجع سفيره الى لندن، الدبلوماسي البارع والأديب الأريب جمال محمد احمد، إلا في السادس عشر من ابريل/نيسان 1966، لتقطع مرة اخرى في اليوم الثاني للعدوان الإسرائيلي في يونيو/حزيران 1967 ويعود جمال محمد احمد الى الخرطوم مرة اخرى وأخيرة. غادر السفير البريطاني سير ريتشموند الخرطوم عند قطع العلاقات في المرة الأولى وعاد إليها بعد عودة المياه الى مجاريها. أما في المرة الثانية فقد أوفدت الخرطوم رئيس وزراء حكومة أكتوبر/تشرين أول 1964، سر الختم الخليفة، سفيرا الى "قلب العالم النابض"، وذلك في مارس/آذار 1968 ليعيد العلاقات الى سابق عهدها، ويعود الى الخرطوم سفير المملكة المتحدة، سير روبرت فاولر، الذي كان قد غادرها إثر خطبة محمد احمد محجوب، رئيس وزراء السودان آنذاك، أمام الجمعية التأسيسية منددا بالعدوان الإسرائيلي ومن وقف وراءه. كان ذلك في عهد الديموقراطية الثانية. ولتلك الخطبة العصماء وما تلاها من قرارات و "مساعدات لمصر" أثناء عدوان 5 يونيو/ حزيران قصص حدثني عن خفاياها سفير العراق في الخرطوم وقتئذ الدكتور الراوي الذي كان ناصري الهوى ووزيرا للنفط في بلاده أيام عبد السلام عارف، وكذلك سفير سورية، الدكتور حافظ الجمالي، الذي تقلد مناصب وزارية عددا، من بينها وزارة التربية.

مات إيان اسمث في منفاه الاختياري بجنوب أفريقيا مؤخرا، قبيل نهاية العام المنصرم بأسابيع قليلة، لكن الأزمة في روديسيا -زيمبابوي ما زالت مستعرة الأوار. ولم تزل الأرواح تزهق هناك كما في بقية أنحاء القارة التي لم يمضي بعد على استقلال معظم أقطارها نصف قرن من الزمان؛ والسودان خير شاهد لمن لا يريد ان يصيخ السمع وينشر سارية الأبصار. بل ان الأنفس التي قتلت إبان عهد الاستقلال تفوق عددا فترة الاستعمار والكفاح المسلح، والقتل أضحى أبشع من أيام المستعمر الأبيض الحالكة، ان شئت.

ففي عهد موقابي ارتكبت مجازر تقشعر لها الأبدان، تفوق في هولها حملة الأرض المحروقة التي نفذها الجيش الإثيوبي أواسط الستينيات ونزح بسببها آلاف الإرتريين الى حدود السودان الشرقية، الذين ما زال بعضهم مقيما في معسكرات اللاجئين التي نًصبت لهم ويقيم معهم اليوم أبناء وحفدة ولدوا في تلك المخيمات البائسة. وجرت في زيمبابوي جرائم تفرقة عنصرية وتطهير عرقي ليس لها مثيل في عهد سيادة البيض. فقد عانى المتبيلي من قهر زبانية موقابي وعصابات قبائل الشونا ما عانوا. إذ ان الفيلق الخامس الذي دربته جمهورية كيم ايل سونغ في شمال كوريا وقاده العقيد بيرنس شيري، أحد أكثر رجال روبرت موقابي شراسة ووحشية، قام بمذابح جماعية امتدت طيلة عقد الثمانينيات من القرن الماضي، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء في أواسط البلاد ومنطقة اندبيلي في متبيليلاند. عرفت تلك الحملة الهوجاء باسم "قوكوراهاندي"، وهي تعني بلغة الشونا (بشائر المطر التي تهطل لكي تنظف الأرض من بقايا التبن قبل تساقط أمطار الربيع). لكن الأمطار، طيلة ذلك العقد الجهنمي، همت دما قانيا، وخلفت جثثا لأنفس بريئة، خطيئتها انتماء أبنائها وبناتها لقبيلة غير قبيلة الحاكم الفرد المتسلط المتكبر. وهروب منقستو هيلي ماريام، جبار إثيوبيا السابق، الى حمى موقابي بعد خلعه، هو من منطق الأشياء، حينما يلجأ الآثم الى دغله. اكتفى هؤلاء ومن على كسمهم بمعنى قاصر للحرية، لما اقنعوا أنفسهم وتابعيهم بأنها انفكاك بقعة جغرافية، صغيرة كانت أو كبيرة، من ربقة الاحتلال الأجنبي، ولم يدركوا ان حرية الأوطان هي في حرية الإنسان، وفي حماية حقوقه كاملة غير منقوصة، بدءا من حقه في الحياة، والحياة الكريمة تحديدا، وليس في سوقه كالبهيم الى محارق، دعيت حروبا. وما يحدث اليوم في السودان وإثيوبيا وارتريا والصومال وكينيا وحتى جنوب إفريقيا، بل القارة كلها شمالا وجنوبا (ولا أعنى أفاعيل الحكومات فقط، بل كل من صادر حق الناس في التعبير ونصّب نفسه وليا عليهم)، لا يدعو الى الحزن فحسب، بل الى الغضب العارم والسخط والتنديد والإدانة. كيف تأتت القدرة، لمن حارب من اجل الحرية، أن يستعبد الناس في نهاية المطاف؟

وهذا الذي يجري في كينيا، يزدري كل التضحيات التي بذلها الناس بسخاء عند احتدام كفاح الماو ماو، ويسفّه دماء أريقت زكية، ويحط من قدر رجال آثروا على أنفسهم وعفوا عند المغنم. فقد رفض الزعيم الكيني المخضرم اوقينقا اودينقا، والد رايلا اودينقا خصم كيباكي في الانتخابات الأخيرة، ان يتزعم كينيا مؤثرا جومو كينياتا. لقد كلف ذلك الموقف كينيا الكثير في حساب المستقبل وفي أرواح الناس. فقد رفض اودينقا الأب دعوة سير باتريك رينسون، أخر حاكم عام بريطاني قبيل استقلال كينيا، لتشكيل أول حكومة انتقالية كينية. ذهل الواقفون في دار الحكومة الذي أصبح قصرا للرئيس، وكانوا من الزعماء الوطنيين ورجال الادارة الاستعمارية الكبار، من رفض اوقينقا اودينقا عرض الحاكم ليصبح أول رئيس وزراء ينقل البلاد الى أعتاب الحرية المنشودة. رد هذا الزعيم الكبير قائلا: "لو قبلت عرضك سأتحول الى خائن في عيون الشعب. فالبريطانيون لا يستطيعون انتخابي زعيما لشعبي. كينياتا موجود، هنا في لودوار(2). أطلق سراحه، ومكّنه من قيادتنا. فانه من وقع عليه اختيار الكينيين." لحظتئذ لم تفت اوقينقا الفرصة لرئاسة الحكومة حتى مماته فحسب، ولكن افتقدت كينيا السبيل الى الحرية الحقيقية. كانت هذه هي مأساة الاختيار الوطني عندما يصير هذا الاختيار حادا كنصل السيف، وهنا يسمو البطل عند الاختبار الفردي المحض، ولكنه يقع صريع القرار الكلي!

وفي إفريقيا نماذج لا تحصى ولا تعد للفرص الضائعة ولغلبة النفس الأمارة بالسوء على طهر الثوار وحكمة القيادة ووضوح الرؤية. ففي بعض البلاد تحولت الكوارث الطبيعية الى دافع للانحراف بدل ان تكون حافزا للإخلاص. لقد كانت بتسوانا من انجح البلاد الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستقلال. أدار قادتها شؤون الناس والبلاد بقدر ما يستطيع المتفاني، لكنهم في سنة من السنوات دعوا القادة الأفارقة الى مؤتمر قمة ينعقد بعاصمة بلادهم قابروني، فتحول الوزراء، بتحريض من سبقهم الى المال الحرام في أرجاء القارة الأخرى، من سيارات التويوتا اليابانية الى المرسيدس الألمانية وخلعوا ساعاتهم اليابانية أيضا ليزينوا معاصمهم بساعات الرولكس السويسرية الأصلية لا المقلدة التي تشتريها من شوارع آسيا بملاليم. ثم جارت عليهم الطبيعة، ليهلك الجفاف قطعان الماشية، وكانت بتسوانا تنتج أفضل أنواع لحوم البقر، وعصف الفساد بمناجم الألماس، وحصد مرض نقص المناعة المكتسبة (الإيدز) سكان البلاد، حتى ان ملكة جمال الكون البتسوانية قالت يوم تتويجها ان مكافحة هذا المرض هو مهمتها الأولى. انتخبت امبولا كينيلوي كويلاقوبي أول امرأة سوداء في هذه المسابقة العالمية، وإن لم تكن الإفريقية الأولى. إلا ان اللقب لم يجد صدى، غطى عليه أنين مرضى الإيدز وسعال المصابين بالدرن وصياح أطفال قابروني الجياع. كانت بتسوانا بلدا يبشر بالخير ومثلا يحتذى! ولعل الصديق السفير صلاح محمد علي يقتسم معنا تجربته في تلك الأصقاع. فابن الفريع القديم دبلوماسي محترف فطين فرضت إنجازاته نفسها على الصفحة الأولى من موقع وزارة الخارجية السودانية الاليكتروني، وأديب مطبوع، وهو فوق ذلك ثالث المستحيلات.

ماذا يقول الفيتوري اليوم عندما يرى ان السيد قد بدّل لون جلده، وان الطغاة الذين مروا بالأمس نافخين أبواقهم تحت أقواسها، لم ينتهوا حيث مروا، بل رسخت أقدامهم فوق صدورنا:

جبهة العبد ونعل السيد
وأنين الأسود المضطهد
تلك مأساة قرون عبرت
لم أعد أقبلها، لم أعد
كيف يستعبد أرضي أبيض؟
كيف يستعبد أمسي وغدي؟
كيف يخبو عمري في سجنه؟
وحبال السجن من صنع يدي
أنا فلاح ولي الأرض التي
شربت تربتها من جسدي

-------------

• عنوان كتاب سيرة اوقينقا اودينقا الذاتية Not Yet Uhuru. أحدث الكتاب ضجة عند صدوره في ستينيات القرن الماضي، استعرته عنوانا لهذه الكلمة.

** رائد الشعر الروسي الحديث، عرفه العالم من خلال روايته "دكتور زيفاغو"، ويعرفه الروس شاعرا عملاقا. حصل على جائزة نوبل للادآب في العام 1958، قبل وفاته بعامين. قبل الجائزة في البداية ثم استنكف في برقية مقتضبة الى اللجنة المانحة. خشي باسترناك ألا يسمح له بالعودة الى روسيا إذا ما غادر الى استوكهلم لتسلم الجائزة. ورغم ذلك أبقت لجنة نوبل اسمه في سجل الخالدين. ترجمت هذا المقطع عن الإنجليزية:

Like a beast in the pen, I’m cut off
From my friends, freedom, the sun
But the hunters are gaining grounds
I’ve nowhere else to run!

(1) قال البعض ان السفير البريطاني ذاته، السير جون كريستوفر بليك ريتشموند، هو من أتى لمقابلة مالكها ورئيس تحريرها في أمر عاجل.

(2) لودوار، بلدة في شمال غرب كينيا عند بحيرة توركانا، وهي عاصمة الإقليم الذي يحمل اسم البحيرة. كان كينياتا محبوسا فيه.

elsouri1@yahoo.com

 

آراء