مداخلة على مداخلة الإفتتاح: الأرض ذات المانجو والنخيل

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم


حملت إليّ الكلمة الإفتتاحية التي قدمها الدكتور الواثق الكمير لإجتماع لجنة الرؤية و البرنامج في القيادة الإنتقالية للحركة الشعبية في الشمال, حملت إليّ طمأنينة خاصة. فإذ لا غرابة أن تجيء أفكار د.الواثق واضحةً مُحفِّزةً للتفكير و حاضَّةً على التأمل-شأن أطروحاته كافة التي ظل يطرق بها على أدمغتنا العاطلة و المضطربة, فإنها تأتي في زمن قلق بالغ القلق, مهما تكن دائرة النظر ضيقة في حدود بلدنا المنشطر وشيكاً إلى بلدين, أو إذا أرسلنا النظر ليشمل إقليمنا الأفريقي و محيطنا العربي.
أول القلق أن القيادة الإنتقالية للحركة الشعبية في الشمال و هي تودع الحركة الأم و تستودعها أمنياتها التي كانت إلى الأمس القريب محور حياة و أمل و مستودع رجاء بذلت في سبيله تضحيات عزيزة, أول القلق هو أصوات الفاشست التي أضحت فاشية فى سياستنا و إعلامنا, تزعم أن لها حقاً مقدساً تمنح به الحركة الشعبية حرية أن تكون أو لا تكون, و حرية أن تفعل في إسمها و عنوانها و شعارها ما تشاء, إذا رغبت في إعادة تأسيس نفسها و مواصلة النضال السياسي حزباً في دولة الشمال. فالفاشيون لا يحبون الحوار و النقاش           و الجدل و التداول و الأخذ و العطاء و لا يقولون التي هي أحسن إلا مضطرين, فهُم متى لقوا الضعفاء أقاموا عليهم حدودهم           و شروطهم و أنزلوا عليهم أهوائهم. و لحسن حظ الحركة الشعبية و لحسن حظ السودان, فإن الحركة تأوي إلى ركن شديد من قوة السلاح و المال , و لذلك يصمت المؤتمر الوطني إزاء كثير من عملها و نشاطها, بل و يحترم قرارها, و لا يودع قادتها سجونه              و معتقلاته كما يستضعف آخرين و يضيِّق عليهم, ففور  إرتفاع تلك الأصوات التي تستشعر عمق خيبتها بنجاح الحركة الشعبية في تمام إنفاذ برنامجها بإستقلال الجنوب و يدفعها غيظها المميت للتهديد, فورَ إرتفاع تلك الأصوات حسم قادة الحركة الشعبية المجادلة العقيمة حول حقهم في الحياة و البقاء, مذكرين المؤتمر الوطني أن الحركة ما تزال تحوذ على والٍ لولاية النيل الأزرق و تتطلع بثقة لآخر في ولاية جنوب كردفان, لكن الأهم هو جيشها المتبقي في الشمال و الذي يَكبُر قوةً و عدداً حركات المقاومة المسلحة في دارفور مجتمعة. نَعَم حسم ياسر عرمان جدل البقاء, و لكن الأرواح الشريرة تبقى حيّة تنتظر سوانح أُخر و يبقى معها القلق خشيةً من العدو الجاهل قائماً.
المهم أن كلمة الدكتور الواثق لدى الإفتتاح تجاوزت عن تلك الهواجس و التهديدات و نقلت الجدل إلى الخطوة الموجبة التالية, أن هنالك أمر واقع كبير اسمه الحركة الشعبية في الشمال مهما ودّعَنا الجنوب نحو الإستقلال فإنها باقية, من أعماق المدن و القرى إلى حواشيهما, من جبال النوبة إلى جبال الإنقسنا و من أمبدة إلى الحاج يوسف ومن ديم فيليب في بورسودان إلى ديم نور في القضارف .
قديماً كان الأب (فيليب) يقول في محتشداته الكبيرة لمنتصف العقد الثمانين سائلاً جماهيره: أين كسب الصادق المهدي دائرته ؟    فيجيبون : خارج الخرطوم , أين خسر الترابي دائرته ؟ فيجيبون : في الخرطوم. ثم : أين فزت أنا ؟ فيجيبون : في الخرطوم.
ذلك أن معرفة الواقع و الإعتراف به بعض من سنة الله سبحانه و تعالى في الإجتماع البشري المُوفَّق, و إن الذين لا يرون الواقع إلا كما يودون أن يروه, مهما قرأوا القرآن و دأبوا على قراءته بغير عيون البصيرة بل بعيون الديكتاتورية المطموسة, لن يدركوا المعنى العزيز للآية الكريمة (وَ جَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَ قَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) , هو ذات معنى الإعتراف أو (Recognition) في ثقافتنا السياسية المعاصرة. (سورة الحجرات حيث يمضي سياق الآيات في غالب السورة حول سياقات الإجتماع البشري و النذارة من التعنصر و التساخر و يحمل على الأعراب الذين يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي و يدّعون إيماناً و هم لم يؤمنوا بل أسلموا لسلطان الإسلام).
فلو إعترف الناس بعضهم ببعض, أن أمهاتهم قد ولدنهم أحراراً و ينبغي أن يعيشوا كذلك, ثم إذا جاز البشر فتنة العنصرية و رأوا الإنسان كما وصفه القرآن و نظر إليه الأنبياء (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم), مهما يكن لونه و شكله, و إذا إجتازت البشرية أساطير العِرق و اللون و تعارفت و تزاوجت و تخالطت, أخرجت عندئذٍ أذكى الناس و أقوى الناس و أجمل الناس.
و إذ دأب الإنسان ألا يعترف بأخوانه إلى جواره القريب و ينكر أو يستنكر ثقافاتهم و لغاتهم ثم يعمد إلى إضطهادهم بدلاً عن إستيعابهم, ثم التساخر و الإستحقار بدلاً عن المودة والرحمة, عرف التاريخ الحروب الأشد قسوة و الأكثر مرارة التي تخرج من رحم الفتن العنصرية, كالتي إستمرت عندنا طويلاً وقسمت بلادنا قسمين, و هي رحم وَلُود لا تقف عند حدود كلما أكلت أخضراً تطلعت إلى آخر, كما تتطلع اليوم لتعيد ذات النمط في أبيي و جبال النوبة و قبلهما ما قصرت في دارفور.
و إذا لم نعترف بالبشر و مشكلاتهم و آمالهم و طموحاتهم فإن ذلك التجاهل سيفاجئنا بالتعبير عن نفسه على نحوٍ قد لا نحبه و لا نرضاه, كما فاجئتنا الإستقبالات الأسطورية لزعيم الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق دي مابيور عشية عودته المظفرة للخرطوم.
أذكر كلمات البروفيسور حسن مكي و هو مراقب لصيق لسنوات طويلة لما ظل يطلق عليه إسم الحزام الأسود حول المدن, أخذته المفاجأةكما أخذت الآخرين, فقال من على شاشة الجزيرة ذلك المساء: إكتشفنا اليوم أن الخرطوم عاصمة أفريقية مثل نيروبي و كمبالا و هراري. أو قبل ذلك إذ عَبَّرَت مشكلة الجنوب عن نفسها بين يَدَيِّ الإستقلال بتمرد مُنفلت و تطورت عبر حرب ضروس لعقود. أو كما عَبَّرَت دارفور أخيراً عن مشكلتها في حرب لا تقل ضراوة عن أختها, رغم أن أهل دارفور يوافقون المركز في دين الإسلام و ينتشرون في كل بقاع السودان بأضعاف ما ينتشر أهل الجنوب.
إلى ذلك المعنى و المفهوم دخلت كلمة الدكتور الواثق إلى رؤية السودان الجديد, لكن قبل ذلك لابد من وقفة بالغة الأهمية في منهج و موضوع الكلمة, أقصد القراءة الأمينة الصادقة الصريحة لتاريخ الحركة الشعبية الأبعد نسبياً قبل الرحيل المفجع لقائدها و الأقرب بعد توقيع إتفاق السلام, و عَبْر المسار الذي قاد إلى إستقلال الجنوب. ذلك سبيل يتجنبه الناس و تتحاشاه الأحزاب, لأنه شهادة على النفس, إذا صدقت قد تستدعي نقداً لها و قد يكون النقد قاسياً يأباه القريب قبل البعيد. و لذلك ظل كثيرون يدعون الناس إلى الإنضمام إلى أحزابهم و كياناتهم دون قراءة تاريخهم و محاسبتهم على ذلك التاريخ, و لكن الشهادة الصادقة على النفس هي أكبر مُحفِّز يشجع المعجبين المستريبين الواقفين على حدود الأفكار و الأحزاب, أن يَعبُروا و يلتزموا أعضاءً متوكلين. ذلك أن النقد الذاتي في مصطلح اليسار يحمل الطمأنينة و الثقة أن الحزب إدراك أخطاءه و تحدث عنها, مما يؤكد وعيه بها و تصميمه على إصلاحها. أمّا المنهج الآخر الذي يسترها بالصمت و يحيطها بالغموض و من ثمّ يُلبس على الأقربين إذا كانوا يجهلون الماضي و يُؤسَهم من الإصلاح إذا كانوا يعلمونه. و هو منهج يعرفه الغربيون و يمارسونهم و قد كان أحق به أهل الأخلاق و الأديان لولا تقاليد بالية متخلفة, تعتبر النقد الموضوعي فى الشأن العام فضائح شخصية أو نشراً للغسيل القذر .. العبارة الشمعية المتكلسة الآسنة.
كانت منطلقات و دوافع قادة الحركة الشعبية في الشمال التي سارعت بهم للإنحياز و الإلتزام إلى صف الحركة الشعبية في وقت مبكر, هي عقيدة الوحدة و رؤية السودان الجديد, التي أحكمت أصولها و فروعها أفكار و تجربة زعيم الحركة المُلهَم و المُلهَِم الدكتور جون قرنق. و هي التي دعت كثيرين إلى فراق أحزابهم و أهلهم لينخرطوا مناضلين في الحركة الشعبية و لو مقاتلين في الجيش الشعبي.   و لكن ذلك لم يُغشِ الأبصار أن الحركة الشعبية تأسست في غابات الجنوب و تزودت أودها الأول من تمرد كتائب جيشه, و قعقع سلاحها الأول عبر مدنه و قراه, التي ظلت تدفع ثمناً باهظاً لا يُتصوَّر و لا يُقدَّّر من وجودها و حقوقها مدى سنوات الحرب. كما أن كل قادتها الأوائل كانوا من الجنوب عسكريين أو مدنيين تعسكروا.  بل إن تطورها عبر مراحلها الأولى كلها كان جنوبيا و بدى حزبها و جيشها في حساب الكثيرين كأنه بعض نضال أفريقيا السوداء من أجل التحرير الذي يحمله إسمها, و في سبيل الإستقلال الذي كأنه تأخر عن هذا الإقليم. و إذ تتأثر كل حركة بنشأتها و مناخ ميلادها فقد جاءت أغلب المواقف المساندة للحركة تستصحب تلك الظروف         و تقدم لها الدعم من أجلها, وغالب الذين إنحازوا للحركة الشعبية من الشماليين كانوا ممن لهم سابقة إنتماء إلي مدارس الإشتراكية    و اليسار الثوري و أحزابهم, رأوا في الحركة تمثلاً لآمالهم في تحول جذري يتوكد عبر كيان جنوبي النشأة أفريقي الملامح ماركسي التوجه, يتجاوز  بهم في خطوة واحدة حاسمة حتى رؤية و مواقف الحزب الشيوعي.
كانت كذلك غالب المواقف التي عارضت دخول الشماليين إلى الحركة الشعبية و حملت عليهم بضراوة قد تأسست على إستنكار إنتمائهم لكيان جنوبي, يحرك أغلبهم دوافع عنصرية لا توفر سلاحاً مادياً أو أدبياً في الحملة على الجنوبيين, و قليل من تلك المواقف لا يرى في الحركة إلا كياناً إنفصالياً و لا يُقوِّم زعيمها إلا عميلاً موالياً للأجنبين, ذلك رغم وثائق الحركة و خطب رئيسها و جملة خطابها الذي يشدد على وحدة السودان على أسس جديدة, على النحو الذي فصّلت برصد دقيق كُتُب الدكتور منصور خالد مقالاته.
وجه من وجوه الغرابة فى تطور الحالة الفكرية و السياسية السودانية, فرغم الوعي المبكر و الإنتباهة الأولى لدى كثير من مدارس  و رموز الفكر و الأدب و السياسة في الشمال لسؤال الهوية الأفريقية منذ سجال محمد أحمد محجوب و التيجاني يوسف بشير, ثم (أباداماك) في أواخر العقد الستين من القرن الماضي, تتبلور في عودة  محمد عبدالحي إلى سنار, و التجليات المختلفة لمدرسة الغابة و الصحراء, تتابع بإحسان خطى السلف الصالح (محمد المهدي المجذوب) و تقتبس من نار المجاذيب هدى.  ثم الشاعر صلاح أحمد إبراهيم في غضبة الهبباي الذى صدر في العام 1964 و لم يتجاوز عمر الشاعر نفسه عامه الرابع و الثلاثين .. أسمع إلى صلاح يقول بصراحته الناصحة فى قصيدة (فكر معي ملوال):
حقيقة عارية كالفيل كالتمساح كالمنيف فوق كسلا ..
كذّاب الذي يقول في السودان إنني الصريح .. إنني نقي العرق
إنني المحض .. أجل كذّاب
ذلك وعي مبكر أين منه زمان الغفلات من شيوخ لا يرجى حلم بعد سفاههم. شهدت حالة صلاح أحمد إبراهيم تحديداً إتصال السجال عنيفاً بينه و بين الحركة الشعبية, فقد كان لا يرى في إشتراع الحرب إلا تنفيذاً لمخطط أجنبي يستهدف تقسيم السودان. لكن موقف صلاح لا يحتوى على أي بُعد عنصرى, لأنه يماثل بالضبط موقفه من النخبة المصرية أو ما يسميه محمد أبو القاسم حاج حمد الوعي المتجه شمالاً نحو المتوسط.. يقول صلاح في وصف العلاقة السودانية المصرية :
و جارك جار عليك, أجارك الله منه
مثل قابيل .. لكن قابيل أكرم
يقتل .. لكن دونما خسة أو خداع
إلى تلك القضايا أشارت ورقة الدكتور الواثق و هي تعيد ضمن سردها و تأملها الأمين لتاريخ الحركة, الحوار الذي دار بين القيادات الشمالية مع الدكتور جون قرنق في مؤتمرهم الأخير  قبل التوقيع على نيفاشا, يقلقهم تبلور خطاب الحركة منذئذٍ حول قضية تقرير المصير.  فلو إتصل الحوار حول تلك القضايا حراً منذ أوان المحجوب و التيجاني و تماسكت مراحله المختلفة, لما استبد القلق على أطروحة السودان الجديد و لما إحتجنا للتضحيات الجسام, بل لما إحتجنا للحرب قديماً في الجنوب و حديثاً في دارفور. إن تبلور الحركة الشعبية في الشمال يبعث ذلك الحوار المهم من جديد : أولاً من ذات التأمل الذي يَعتَبر بالتاريخ و الأسئلة التي طرحت مبكراً و أثبت مسار الأحداث أنها كانت أسئلة صحيحة ما تزال تستدعي أجوبة صائبة: ما الذي جعل تقرير المصير يحل محل فكرة السودان الجديد رغم التضحيات  الباهظة التي قدمت في سبيلها ؟؟ و ما الذي دفع تقرير المصير ليكون البند الأهم في أجندة الحركة و يوازي بالضبط أهمية مسألة الشريعة الإسلامية في مزاعم حزب المؤتمر الوطني ؟؟ هل السودان الجديد رؤية و عقيدة أم طرح مرحلي قد يُستَبدل بالإستقلال الموعود, و يكون الشماليين في الحركة قد قدموا تضحياتهم مرتين في فراغ بلقع لم يمسك الماء و لن ينبت الكلأ !!
أذكر حواراً دار بين الأستاذ ياسر عرمان و القوميين الجنوبيين نحو منتصف العقد التسعين على صفحات جريدة الخرطوم, و إذ بدى المصطلح يومها غريباً (القوميين الجنوبيين), فإنه ما يزال غير  مألوف للكثيرين من الشماليين. أفادني ذلك الحوار  في معرفة الحوار الذي يدور داخل أطر الحركة الشعبية و قد كنا لا نعرف منها إلا ظاهرها الماركسي و إلا معاركها التي لا تنتهي, كما أفادني أن في الحركة الشعبية فئة أخرى مهما تكن مناضلة تماثل رموز الإستقلال و التحرر الذين سبقوهم في أفريقيا-فإنهم يخالفون رؤية السودان الجديد
و يؤمنون بإستقلال الجنوب, و ليس مجرد ممارسة حق المصير بوصفه حقاً عاماً من حقوق الإنسان. و إذ يُعبِّر  ياسر عن رؤية المسار الرئيس للحركة و بيانها الأساس أمام مطامح القوميين الجنوبيين و آمالهم فإنه يُعبِّر عن ذلك على نحو خاص, لأن حالته الشخصية هي كذلك تعبير عن تلك العقيدة, و إلا ما الذي يجعله ينضم و يقاتل في حركة جنوبية تتطلع لإستقلال الجنوب.
هذه المفارقة الفكرية المهمة في مسار الحركة الشعبية, تكثّف تجليها بين يدي الشهور الخواتيم لإتفاقية السلام الشامل, لا سيما بعد الإنسحاب الشهير لذات المحارب و المجادل القديم عن الحركة (ياسر عرمان) عن المنافسة الرئاسية علي الجمهورية في أبريل 2010و التي تستدعي تأملاً عميقاً لمسار الحركة الشعبية, و لمصير الهوية السودانية و لمستقبل الوطن علي نحو ما حاولت ورقة د.الواثق,قد تحولت عند غالب الأقلام الشمالية التي تناولتها إلى مشكلة خاصة بشخصيات القادة الشماليين في الحركة, و تَحوّر السؤال الكبير ليكون باهتاً بالغ السذاجة: أين سيذهب ياسر عرمان و الواثق كمير و وليد حامد و الهادي الرشيد و محمد يوسف و غيرهم إذا إنفصل الجنوب؟؟   و كان رد أولئك ثابتاً متسقاً. أنْ ضَعُفَ الطالب و المطلوب أمام هول الوطن الذي تمزق و يتهيأ للمزيد.
يذكرني ذلك بكلمات لكبار في المؤتمر الوطني و لصغار منهم  يتبعونهم في الغيِّ, و قد طفقوا يطوفون بعض العواصم العربية يحاولون تخفيف وقع صدمة الإنفصال على عضويتهم, في (تنويرات) ظلامية جعلتني بين كثيرين نعطي ربنا العجب, هل هؤلاء هم نفس الذين كنت أعرفهم من قديم .. إِسمعهم يقولون: أنْ الحمدلله إرتحنا من الجنوب ..!!! إن كاتب هذه  السطور يعلن أنه يشعر بالخجل الشديد من نفسه و من الأخرين أنه منح أولئك النفر ثقةً كبيرة و لوقت طويل.
المهم أن هؤلاء الذين يزعمون هماً بقادة الحركة في الشمال و بحثاً لهم عن مستقبل, يتيح لهم الحوار الذي إشترعته مداولات لجنة الرؤية و البرنامج إعادة طرح الأطروحة, و تقويم المظالمة إلى معادلة تحفظ كل كسوب أولئك رصيدا مهماً للتجربة السياسية في الشمال.
أولاً: في العلاقة مع الجنوب الجديد, فأغلبهم إنتسب إلى الحركة الشعبية إنتساب فكر لا عرق, فهم يحملون في وجدانهم نداءً مختلفاً يحفزهم لأداء واجب فوق فروض العين و الكفاية, يستمد من تجربتهم النضالية زاداً مهماً لصحة تلك العلاقة و متانتها و عافيتها المستدامة المتجددة.  ذلك أنها علاقة ذات تاريخ كثيف ملتبس و لها حاضر إنقسم فيه البلد إلى بلدين, لكنهما كأنما تفارقا بغير مودة كثيرة .. لم نفترق أصدقاء و كان الأحرى بنا أن نكون كذلك. و إذ أنَّ عِبَر التاريخ و تجاربه القديمة و القريبة تؤكد أن الدول التي تفاصلت إستفتاءً حراً وفقاً لمعايير و نظم القانون الدولي سارعت إلى الحرب, يجرها و يورطها التاريخ و السياسة. وقع ذلك بين الهند    و باكستان كما تكرر بين باكستان و بنغلاديش عندما إنفصلت الأخيرة عن الأولى. أما اقربها مثلاً فأثيوبيا و أرتيريا, اللذان إفترقا أصدقاء بينهما سوابق فكر و نضال مشترك و قربى رحم الإثنية الواحدة, كلها إستحالت رماداً عندما إشتعلت الحرب و أحرقت النفوس العزيزة و الموارد الشحيحة.
أما الشمال و الجنوب عندنا فبينهما وميض متقد كثير, ينكشف عنه رماداً حيناً و يستتر أحياناً, يغذيه جمر يتلمظ في نفوس مريضة نافذة لا تتذكر و لا تتوب, كما أن بين الشمال و الجنوب كذلك وشائج قربى وثيقة, يُعَوَّل كثيرا على الشماليين في الحركة الشعبية رعايتها المستمرة و تنبيه الغافلين عنها, كما أنهم بقدوتهم في التضحية و خبرتهم بمأساة الحرب و كلفتها المادية الباهظة و عنائها المعنوي الفظيع, أقدر منهم بالذكرى التي تنفع المؤمنين و بإشتراع الدروس و العبر.
تأتي في السياق –كذلك- قضية الهامش التي يعبر عنها بعض قادة الحركة بالجنوب الجديد الذي يقوم تلقائياً متى ما إنفصل القديم, لكنها في الحقيقة قضية كل أطراف السودان, و هي أطراف مجازاً لأنها في غرب السودان و شرقه و شماله و جنوبه و وسطه, فهي كل السودان. و هي في أظهر تجلياتها قضية إقتصادية تتعلق بالتخلف التنموي, لذلك تلجأ الأنظمة الشمولية خاصة إلى الرد عليها بتشييد المنجزات المادية, فيأتي (السد) (رداً) على الخصوم الفكريين و السياسيين, الذين لا يُعيِّرون النظام بفساده المادي فحسب و لكن ببؤسه الفكري و الأخلاقي, الذي يزين له كبت الحريات و يزكي العنصرية و يَكره الحوار و يتشائم من الثقافة.
لكن قضية الهامش في جوهرها قضية فكرية موصولة بمفاهيم الحرية و العدالة, و فروعها في التعبير عن الهوية الثقافية أو حكم القانون أو بسط السلطة و الثروة. كما هي موصولة بوعي الشعب بالفوارق الفاحشة بين المركز و الأطراف وبين الفقراء و الأغنياء. و هي ثمرة تفاعل بين النخبة و عامة الناس بما يتجاوز مشكلات المعاش و هموم الإقتصاد, فتوق الإنسان إلى أن يحيا وفق معتقداته و ثقافته     و يتحدث لغته و يغني فنه, توشك أن تكون جبلة في طبيعته لا تنفك عنه من حيث هو إنسان, شأنها في ذلك شأن الحرية, التي يذهب كثير من الفلاسفة أنها أصل (وجودي) لا يبحث عنه خارج الإنسان. و قديماً قال إبن خلدون (إن الإنسان يستشرف الزينة إذا إكتفى من حاجات معاشه) و الحق أن الإنسان يستشرف الفن مَهما يكن بدائياً, و مَهما يكن فقيراً حاجات معاشه أولية دون الكفاف.
و إذ ينبثق التنوع و التعدد فوراً من الحرية, فإن التلاقح و التثاقف و التذاهن الذي تتيحه الحرية قد يتطور بالخلاف و التباين نحو الوحدة, و بما لا يجعل التعدد دائماً غاية لذاته, فالأمم و الشعوب الأفضل حضارة, شديدة الإتفاق في أفكارها الأساسية العامة          و متسقة في أعرافها و منسجمة في أخلاقها, و يبقى الخلاف في الفروع يثري الحياة و يفتح المنافذ و الأبواب و يبسط السَّعة, التي كذلك يتوق إليها بطبعه الإنسان السوي. فالوحدة الحضارية هي ثمرة مئة زهرة تُركت تتفتح (كما دعى الزعيم الصيني ماو),  و هي خلاصة التعبير الحر لكلٍ إلى مداه, و هو ذاته الذي يصاهر الثقافات و يصهرها في بوتقة واحدة تعبر عن هوية أمة. أما إعجاب الكثيرين و فتنتهم بالمناهج الحديثة البنيوية و ما بعدها, فهي –هذه المناهج- ثمرة تطور ثالث من الوحدة إلى الفردية, بعد طغيان مفهوم الدولة و غلبة الحكومي على الإجتماعي, و إختزال الفرد في المجتمع, مما إستدعى ثورة جديدة في الأفكار و العلوم ضمن السياق الحضاري الغربي المتقدم بعيداً نحو الثورة التكنولوجية.
أشرت كثيراً في مساهمات سابقة إلى أطروحات مدرسة المسح التاريخي الشامل, الفرنسية التي أسسها (لويس فيبفور) و زميله (فيرناند برويدل) بعد دراسة الأخير و تخصصه في ثقافة البحر المتوسط و العالم المتوسطي, و لكن الذي يعنيني هنا هو دراسة الأخير للهوية الفرنسية (The Identity of France) ,التي لخصها في كتابه الذي يحمل ذات العنوان, و التي أبان فيها بجلاء أن ما يعرف بالثقافة الفرنسية هو خلاصة الروافد (Peripheral)   ,التي أسهمت بها الأطراف لخلق تلك الهوية المتميزة في أوروبا, فالألزاس في الشرق الذي يتمثل العقل الألماني الفلسفي الرياضي, و الجنوب المتوسطي المستلهم لروح الشرق, و الشمال السويسري و عبقريته اللامركزية بين السهل و الجبل, ثم المانش المتصل ببريطانيا ربَّة الحرب و الصناعة.
للقيادة الإنتقالية للحركة الشعبية في الشمال واجب أن تقود التصالح الثقافي و السياسي بين كتل السودان, وفق رؤية جديدة           و مضامين حيَّه, فقد مضت سياقات التاريخ مرتدة عن الوعي الأول الذي وَصَفْتُ لدى النخبة, و عن نواة تبلور الأمة السودانية ضمن تطور مؤسسات الدولة الحديثة,إلى صراع على الموارد و نزاع حول قسمة السلطة و الموارد و تباغض عنصري بين الجماعات و القبائل.
كما يرتجى منها –قيادة الحركة الشعبية في الشمال-أن تعين الداخل السوداني على التماسك بمد الجسور نحو الأقليم العربي     و الأفريقي. ذلك أن التواصل عبر الحدود ينفع خاصة الوحدة الوطنية في السودان, فكلما إتصلنا بجوارنا زادت عافيتنا النفسية                و الأخلاقية, و أدركنا أن العالم واسع أوسع من قبائلنا و عشائرنا و أحكامنا المحلية. و الغريب أن للسودان إشعاع إقليمي لا يضاهى, لا أدري له مصدراً سوى الطبع المفتوح المستوعب الذي استقبل المهاجرين و رحّب بهم في أهل و سهل, و تزاوج معهم و تفاعل فانصهروا فيه كأنهم بعض منه. أذكر طالباً كاميرونياًً في باريس قال لي قبل أكثر من عقدين (السودان هو يوتاسوني أفريقيا), يقصد الولايات المتحدة الأمريكية. ذلك إشعاع لم يستثمر كما ينبغي و لم ينتفع به لتمتين وحدتنا أو مد ثقافتنا أو إعمار إقتصادنا, فطائراتنا تطير في إتجاه الشمال و لا تسعى إلا قليلاً بين الشرق و الغرب و الجنوب, و أشواق السودانيين في الوسط و تطلعاتهم تنظر تلقاء المتوسط شمالاً, كما أبَان في جلاء محمد أبوالقاسم حاج حمد.
لقد فشلت أيديولوجيا الإنقاذ  أن تفي بأيٍّ من الأعوام التي أعلنتها لأفريقيا, ليس نقصاً في مواردها و لكن عجزاً في تفكيرها, فالإسلام الذي تزعم الإنتساب إليه كان سيمدها بفيوض من إرثه المبارك في أفريقيا, لكن ليس التَّكحل في العينين كالكَحل, و ذلك موضوع أعود إليه في هذا السياق.  في أحد تلك الأعوام قدّم المزروعي محاضرة يتيمة و لم يعقب, و لم نر سونيكا أو أشيبي                 أو أحمدو كروما العاجي, الذي كتب (لامعقب لكلمات الله) .. و لم نر حتى أعضاء الجمعية الأفريقية في القاهرة يزورون الخرطوم,    و بالطبع لم نرَ (مانديلا), و قد كان سلفه الصالح يزور السودان في السلم و الحرب. كما لم تنجح الإنقاذ في إقامة مهرجان للفن الإفريقي كما دأبت الجزائر منذ إستقلالها في 1962 ,ذلك مهما نافق المنافقون بالمقولات الأكليشيه (السودان أفريقيا مصغرة), يعنون قبائله و عناصره و ثقافاته و لغاته, كأنها تمثل كل ما هو موجود في أفريقيا.  – كذلك –عقيدة السودان الجديدة و رؤية الهامش ما تزال تلح على أن تُنفَثَ فيها روح جديدة, و تُعطى مضامين أكثر وضوحاً و واقعية ( لو صحّت الكلمة و النسبة). قيادة الحركة الشعبية في الشمال مؤهلة أكثر من غيرها بما ظلت تتأمل تلك الشعارات, و ما تصدر من أوراق و وثائق, و هي اليوم أعرف بمصادر تلك الروح    و إمكاناتها و أقدر أن تفتح الأبواب التي أشار إليها المفكر السوداني العظيم عبر وَلَعِه العظيم بأفريقيا (جمال محمد أحمد) .. يقول جمال في(وجدان أفريقيا):تحط برفق و تطرُق على قلب أفريقيا ست طيور.. المسيحية,الإسلام,العقائد التقليدية,الماركسية,الليبرالية, الأفريقانية ..
لكن السودان بحالته الفريدة و التي إصطلح بعض الأقلام الإشارة إليها (بالسودانوية), و التي تمثل مصدراً للحيرة و في ذات الوقت منبعاً للإبداع .. هل تذكرون القصة بالغة الدلالة التي حكاها الدكتور جون قرنق أكثر من مرة حول حيرته و زميل له سوداني أخر, لم تسعفهما الحالة السودانوية في تصنيف أنفسهما ضمن السود أو البيض أو الملونيين, و ذلك في أمريكا حيث اللون عنوان للهوية و عاملاً مهماً في التصنيف. و الحق أن بشرة الإنسان لا تقلقه إذا إطمئن إلى هوية ينتمي إليها فهي لا تتعدو أن تكون لوناً, أما إذا كان لون البشرة دالاً على هوية مُضيَّّعة, فهي عندئذٍ حيرة كبيرة شأن أجيال الأفارقة التي إزدادت ميلاداً في البيئة الأوروبية و في البيئة الأمريكية, و نشأوا لا يعرفون سوى الحضارة الغربية و لكنهم عاجزون بالميلاد عن تمام الإنتماء و التماهي معها.  تلك حيرة ممُِضَّة يعرفها عن حق علمها من قُدّر له أن يعيش بين أولئك القوم عيشة قريبة.
إنني إذ أقدر أن مسألة اللون في الحالة السودانية وفقاً للأفكار المهمة التي أشار إليها الدكتور (الباقر العفيف), في دراسته عن الهوية السودانية, فإني أميل إلى قبول رؤية الشاعر الكبير صلاح أحمد إبراهيم, فقد كان الجدل يثور بيننا حول مسائل العِرق و اللون
و الإسترقاق و الإختطاف, و كنت أميل رغم إنتمائي المعروف لتيار الإسلاميين –لقبول أطروحات – حملة المنظمات الفرنسية التي إشتدت لمنتصف العقد الثمانين ضد الرق و الإختطاف و السخرة و الخدمة المنزلية في موريتانيا و السودان, و كان الشاعر رغم ماضيه اليساري يرفض الحملة بنفس القوة التي كان يرفض بها أطروحات الدكتور جون قرنق و الأب فيليب عباس غبوش و ينسبها جميعاً لمؤامرة تقسيم السودان, لكنه أفادني في النفاذ إلى أعماق الظاهرة لا سطحها.. يقول صلاح: هل الرق عندنا هو نفس الرق الذي عرفته الحضارة الغربية في المأساة البشرية الأكبر ؟! و قد تحدانا بأسئلة بسيطة .. أنتم تزعمون أن جَدَكم القريب كان يملك إماءً و عبيداً و لكن هل كان جدكم يناديهم  يا عبيدي .. و هل كانوا ينادونه سِيدي.. قلنا: لا كانوا يقولون أبي, و كان يناديهم أبنائي و بناتي.. قال الشاعر (إننا لا نستطيع إسترقاق العناصر الأفريقية المحضة من حولنا لأننا هم). لم نلبث بعد حوارات الشاعر أن شاهدنا الرئيس الجزائري الأسبق من علي شاشة القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي, يتحدث عن ذات الظاهرة و يعمد ذات المقارنة التي أشار إليها صلاح أحمد إبراهيم..قال بن بلاَّ: أنا أعرف الرق في الجزائر وفي المغرب, و لكن عندما زرت أمريكا رأيت شيئاً آخراً , رأيت السائق الذي يرافقني    و هو رجل في الأربعين و رب أسرة محترم, رأيت كيف يتعامل معه البيض, إننا نختلف عنهم لأن ضميرنا لا يذهب في الطبقية              و العنصرية إلى إنكار إنسانية الإنسان. بالطبع فهمت ذلك جيداً بعد دراستي لكتب (إدوارد سعيد) و (نعوم شوميسكي) و أعدت تعريفي لظاهرة الصراع الفكري عند مالك بن نبي.
لقد ساهمت الحركةالشعبية بوصفها كياناً جمع الجنوبيين و الشماليين في مشروع نضالي مشترك, في الهزيمة العملية لتلك الظواهر
و المفاهيم, و لكن تبقى النقاط العالقة عالقة تستحق التأمل و التدقيق في العلاقة بين الشمال و الجنوب و الشرق و الغرب, و لو على النحو الجراحي الذي يُعمِل المبضع, على نحو ما قدّم الدكتور منصور خالد في بعض كتبه, أو كما جاء في بحث الدكتور الباقر العفيف, أو عبر البحث المستقصي كما جاء في كتاب الأستاذ محمد إبراهيم نقد عن تاريخ الرق في السودان, و في أطروحات د. الواثق كمير, أو في الأدب كما في المساهمات الروائية لفرانسيس دينق. ذلك أن المأساة الإنسانية المرتبطة بهذه الظواهر ما تزال تعبر عن نفسها سوى في الثقافة و المفاهيم أو في تجربة حكم المؤتمر الوطني الراهنة خاصة, و قد أبلت المكابدة المستمرة للسيطرة على السلطة أن تبلغ منتهى التعبير عن نفسها في جرائم الجنجويد, بل و في الظاهرة نفسها التي يأبى بعض الشماليين عن تصديق و قائعها القريبة الماثلة, و يعتبرها محض صناعة إعلامية غربية.. إنها لا تعمى الأبصار.
إن الحيرة السودانية إزاء مسألة الهوية قد تكون كذلك مصدراً من مصادر إلهام الفكرة السودانوية لأنها حيرة مبدعة.  أذكر ذلك   و أتأمل إبداع السودانيين و تفوقهم في الشعر و التشكيل, بما يفوق إسهامهم في أنماط الفن الأخرى, ذلك رغم أن محيطهم العربي الذي نظموا قريضهم بلسانه, لم يهتم بهم الإهتمام الذي يستحقونه و لم يرعاهم حق رعايتهم, كما أن جوارهم الأفريقي لم ينتبه لتشكيلهم كما ينبغي. في الشعر تقرأ بعض دراسات عربية إحتفلت بالمجذوب و محمد عبدالحي إحتفالاً مهماً, لكنه ما بلغ شهرة محمد الفيتوري الذي قدّم إبداعه في مصر حيث نشأ و درس و نشر. أما في التشكيل فإن الذي إنتبه لمدرسة الخرطوم و أعطاها ذلك الإسم كان رساماً     و ناقداً بريطانياً, شاهد إبداع عثمان وقيع الله و أحمد شبرين و إبراهيم الصلحي و بسطامي, في العقد الستين من القرن الماضي, و رأى فيه شيئاً مختلفاً يميزه عن غيره, و تلك ملاحظة لا يخطئها كل من له خبرة بالتشكيل في السودان, أن هناك عنصر ينتظم أعمال أولئك الرواد و الذين إتبعوهم بإحسان من تلاميذهم, أمثال  د. أحمد عبدالعال, و  د. راشد دياب, و الأستاذ حسين جمعان, و الأستاذة كمالا إسحاق و غيرهم كثير عبر أجيال مختلفة منذ تأسيس كلية الفنون, ذلك رغم أن الرسم من أرحب الفنون سعة و تعبيراً عن ذات الفنان و فرديته.
تقول الباحثة المصرية د. نوران الجزيري: ربما لا نستطيع أن نجد في تاريخ الثقافة العربية مرحلة أكثر تعقيداً و إستغلاقاً على التحليل مثل اللحظة الراهنة, و لا يعني هذا عمقاً أو مناخاً إبداعياً, بل علي العكس تماماً, بل ربما تُؤَرَّخ فيما بعد كأحد أكثر مراحل تطورنا الفكري جدباً و سطحية. و لعل هذا البعد الإشكالي في وضع الثقافة العربية الراهنة يدعونا إلى التنقيب لعلنا نجد حلاً, أو على الأقل فهماً لما هو كائن. (إشكالية خطاب التحديث في فكر الإمام محمد عبده .. من مقدمة الدراسة). ذلك قبل أن يبعث الربيع العربي الذي شهد ميلاد الثورة أملاً في مستقبل مطهراً من الديكتاتور  و أفقاً لحل تلك المشكلات, و لكنه ينطبق اليوم حذو الحافر بالحافر على الحالة السودانية, و يدفعنا لتشجيع بروز كيان الحركة الشعبية بما يحمل من مذخور التجربة التي قد تعين علي فهم المشكلات المعقدة,      و يستجيش بما يحفظ من الطاقات ليقوم إبداع و بحث جديد شامل في الأرض اليباب, من السياسة إلى الفكر و من الفن  إلى التنمية       و الإقتصاد.
أخيراً سؤال الإسلام الكبير و تمثلاته المحدودة اليوم في الجدل الذي و ثقته ورقة د.الواثق بين الدولة الدينية و الدولة المدنية, وما يتصل بهما من قضايا الشريعة و الحدود و أوضاع غير المسلمين, خاصة بعد خروج الجنوب مستقلاً عن المعادلة و بالتالي خروج أغلبية غير المسلمين من نسبة السكان. لكن الرصيد الحضاري للإسلام في السودان و محيطه الإقليمي هو أكبر من البحث المحدود عن إجابة لتلك الأسئلة, بل إن ذلك الرصيد لو أُستُدعيَ على نحوٍ مخلص جاد لحفظ وحدة السودان و أمنه, و أمّنَ لشعبه العدل في السلطة و القضاء    و المساواة في التنمية و الإقتصاد, و لعصِم أطرافه من الحروب, و لطهر مجتمعه من العنصرية و التظالم و التساخر و الطائفية و التفاخر بالعرق أو بالدين, لكن بينهم وبين ذلك مَهَامِه من جهلهم و العمى. يقول المفكر جمال محمد أحمد في معرض رده على المزاعم الغربية التي إدّعَت أن الأفارقة إنما أقبلوا على إعتناق الإسلام لأنه يتيح لهم إباحة في العلاقات الجنسية, و أدبروا عن المسيحية لأنهم لا يطيقون ضوابطها الأخلاقية الصارمة, يرد جمال (لا يعتنق الناس دين لما فيه من عربدة و لكن لأنه يشفى أسئلة الروح و يطمئن قلقها الوجودي). صدق جمال و أصدق من ذلك أن الإسلام لا يمكن أن يكون سبباً لإضطهاد الناس و كبتهم إلا عند الذين يتخذونه شعارات و يشترون بآياته ثمنا قليلاً من إمساك السلطة و نعيم الثروة. بل إن غالب الأصوات التي ترتفع تطالب بفصل الدين عن الدولة أو الشعار الأوسع فصل الدين من السياسة كافة, إنما عنت إستغلال الدين في السياسة و إتخاذه سبباً لإستلاب الناس و إرعابهم. أو من كراهية التجربة الأوروبية في الدولة الدينية التي تفتش ضمائر الناس و تُحرّم البحث العلمي و تحرق العلماء. و الحق أن القارة الأفريقية خاصة في حاجة ملحة لكلمة تهدي روحها, و تنقذها من الكوارث المحيطة و المتمثلة في الحروب الأهلية التي لا تنتهي, و في الإستبداد  و إنتشار الإيدز و الأوبئة و المجاعات و النزوح, و عند ذلك يقوم الدور الأساس للإسلام, ثم يأتي من بعد إستقرار المجتمع و كفايته, الجدل حول تطبيق حد القانون الإسلامي و تحريم المطعومات و المشروبات.
ذلك جدل مهم, و أهم منه أن تستلهم الأحزاب التي تنطلق من مرجعية إسلامية, برنامجاً لشؤون المجتمع و الدولة فى السودان,    و أن تجمع إجتهادها المتباين فى موقف من تلك القضايا. فإذ يتقدم اليوم البحث فى الفكر الإسلامي لا سيما في الأصول بأفضل مما كان  لقرون سابقة, فإن تيارات كذلك من التطرف و العنف و الإنغلاق مؤهلة للإنتشار تحت شعار الإسلام, يستغلها متاجرون بالدين        و تمدها سياسة صهيونية في النسخة الجديدة من الصراع الفكري, الذي تخططه المصالح السياسية و تنفذه أجهزة المخابرات.
و إذا وُفِقت التيارات و المدارس الإسلامية في السودان في تحديد المجتمع و الدولة التي تريد, و قدمت مساهماتها في الحل لمشاكل السياسة و الإقتصاد الحديث و التعليم و الفن و الدفاع و الإعلام, فإن المواطن السوداني مهما زاد كسبه الفكري أو بقي محدوداً, يجد مخرجاً من الحيرة السياسية التي تدفعه اليوم إلى اليأس, و تزهده حتى في الإلتزام الوطني تجاه قضايا بلاده, و الذي كان وقوداً للثورات الحديثة لا سيما في تجليها العربي الأخير.
و إذ تقترب البشرية اليوم بفطرتها من القيم الحقة للإسلام, عبر التثمين العالي لإلتزام حقوق الإنسان و حكم القانون و المشيئة الحرة كما في القرآن, و في الشورى أو الديموقراطية للناس كافة في إختيار حكامهم و نوابهم, و في الشريعة العامة و السلطانية التي تُلزم الحاكم بالعهد الدستوري و العدل و تخضعه للمحاسبة و الجزاء, و لا تتنزل فقط على الضعيف إذا سرق أو سكِر, تقترب السياقات و الحدود بين دعاة الدولة الإسلامية و دعاة الدولة المدنية.
لقد أفادت الحركة الشعبية لتحرير السودان من تجربة اليسار في السودان, و تغذت من رصيد الفلسفة الإشتراكية في التجربة العالمية, بل إن كثير من القيادات الإنتقالية اليوم للحركة في الشمال كانوا من أهل السابقة في الحزب الشيوعي و غيره, و تلك حقيقة     و رصيد موجب ينبغي أن يساعد كذلك في تجميع جبهة اليسار السوداني على صعيد واحد, و يتجاوز التوتر الذي يظهر أحياناً بين الحزب الشيوعي و الحركة الشعبية. لكن دورها الأكبر يأتي ضمن ذات المعادلة السابقة لجبهة الإسلام, أن نوحد البرامج و نجليها, فمهما يكن مفهوم الدولة المدنية, حتى هذه اللحظة, لا يقل غموضاً عن مفهوم الدولة الإسلامية, فإن البرامج تجعل أفكارنا و رؤانا واضحة   و عملية, و أن تساهم الحركة و اليسار كافة في هزيمة الإرتباك و القنوط الذي يلف ساحة السودان.


المحبوب عبدالسلام
10 مايو 2011

elmahboub@gmail.com

 

آراء