هلْ مِن ميثاقٍ إنساني للأمم المتحدة . . ؟

 


 

 

(1)
في الصراعات والخلافات والحروبات التي تدور في مختلف أنحاء العالم من حولـنا والتي تدور وتقع تحت أبصار البشر ولا تتجاهلها العيون ، ندرك أجمعيـن ما للإعلام من ســطوة ومن تأثير غالب على مجريات تلـك الصراعـات والخلافـات والحـروبات. إنَّ عصـر الرّقـمنـة قـد أتاح لنا عبر شهادات تبـثـها الفضائيات ، أن نرى ما لا يمكن إنكـاره من وقـائع ، تؤكّــد أنَّ للصورة المشاهدة أثرهـا ، ليس لعرض الحقيقة وحدها، بل في إحداث الأثر المرجوّ في صياغة رأي عام لدى المتلقين، تأييـداً أو شـجبا، إعجاباً أو نفوراً ، مما يدور من وقائع وأحداث.
من يتابع أساليب التغطية الإعلامية، للحرب التي تدور بين إسرائيل وفلسطين ، سيلاحظ لأول وهلة أن للعـناوين التي تعرض للمشاهدين حول تلك الحرب تصاغ بصورة يراد لها أن تحدث تأثيراً معيّناً ومتعمداً . سترى أن بعض القنوات الفضائية، خارج منطقة الشرق الأوسط، تتحدث عن حرب بين فلسطين وحركة "حماس" ، ثم ترى فضائية ثانية تصفها بأنها حرب ضد الإرهاب الدولي ، وثالثة تقول عنها أنها حرب إسرائيل ، وتمسك عن إكمال الجملة : حرب إسرائيل ضد من . . ؟
(2)
اقول لك باختصارٍ مفيد ، أن كاميرات التصوير التي تنقل لك على الشاشات مباشرة وقائع ينقلها المصوّرون، لا يقل دورها عن الدور الذي تقـوم به مُجنـزرة أو مُــدرّعة أو مُسّـيرة مـن مسـيّـرات "الدرون" في غـمـار تلك الحرب المستعرة. في الحروب التقليـدية ، مثل الحـرب العالمية الثانية ، يصور المراسلون ويكتبون تقاريرهم ، ولكننا نشاهد ونقرأ تغطياتهم الإعلامية، يتلقاها الناس بعد وقوع أحداث في تلك الحرب . غير أن الحال الآن هو غير سنوات الحرب العالمية الثانية، إذ نحن نشاهد الآن ونتابع ما ترصده آلات تصوير مباشرة فيكون المشاهد شريكاً آنيا في الأحداث تدور حوله . إنّ الإعلام بكامل عناصره البشرية وأجهزته الناقلة، يصير جزءا لا يتجزأ من أسلحة يستعملها من هم في غِـمار تلك الحروب والمواجهات العسكرية، بل هو السلاح الأشدّ وطأة والأوقع أثراً . ليس ذلك وحده الذي يحضّنا للنظر لأهمية الإعلام ، بل تؤكده ظاهرة اغتيال الإعلاميين واستهداف قتلهم عمداً لخنق مجازفاتهم وأصواتهم وآلات تصويرهم . لو كا قديما يقال إن الحرب خدعـة، فإن تلك الخدعة تمتد لتصل لإزهاق روح إعلامي ينقل بالصوت والصورة وبالقلم ما يراه. لم يعد القناص في الحرب يصطاد عدوه ، بل أيضا يصوب رصاصه إلى صدر مصور إعلامي مجازف . الأمثلة التي تعزز قولنا عديدة من جمال خاشقجي إلى شيرين أبوعاقلة وسواهما من إعلاميي وصحافيي منطقة الشرق الأوسط الملتهبة من صراعاتها وحروباتها، فلم ترحم اجتهاداتهم ومجازفاتهم الإعلامية أسلحة القناصة .
(3)
وهنا لا تغيب عن أنظارنا، تلك الأساليب والطرائق الماكرة التي تتبعها فضائيات تخدم أجندات ومصالح معينة، فيما تعرض وتبث مباشرة عن مجــريات مواجهات عسـكرية يغطــيها مراسـلوهم في تلك الميـادين . حين تقــرأ – مثلاً- تحت عــنوان : "إســـرائيل تخـوض حـربـا"، ثم تسـكت تلك الفضائية عـن إكمال الجملة الناقصة ، أو حين تضع قـناة فضـــائية من خـارج منطقة الشـرق الأوســـط، عـنوانا يحــدّث عـن حرب إسرائيل ضد "حركة حماس"، أو حين تحدث قناة ثالثة عن حربٍ تخوضها دولة إسرائيل ضد "غـزة"، متجاهلة عن عمدٍ وسبق إصرار ذكرإسـم دولة مغتصبة إسمها فلسطين، يُستهدَف شــعبها في ما تبقى لهم من أراضي دولتهم المنهـوبة من طرف كيانٍ مُغتصِب إسمه إسرائيل ، ليس للاستيلاء على الأرض بل لإبادة سكانها إبادة جماعية تحت بصر مجتمع دولي يتعامل كباره بخبث وازدواج معايير مخجل. إنّ الحرب الإعلامية إذاً هي خداعٌ ومكرٌ واستهبال.
(4)
ولو تجاوزنا عن هذا المكر وهذا الخبث المخجل، فإن الذي تفعله دولة إســرائيــل وآلتـها العسكرية، هو في حقيقته شـنُ حربٍ شعواء ضد المستقبل ، أجل هي حــرب ضــد مقاتليـن مــن حـركة حماس، لكنها حربٌ لإفـناء أعـداءٍ هم في سـن الطفولة، بل هي حرب ضد أعداءٍ لا يرونهم إذ لا زالوا أجِـنّـة في بطون أمهـاتهم الفلسطينيات . لعلـنـا في حاجــة لتعريفٍ قانوني جـديد لظاهرة الإبادة الجماعـيــة ، التي عرّفها المجتمع الدولي وصـاغ القوانين الرادعة وأنشأ المحاكم الدولية لمحاسبة ومعاقبة مرتكبيها . إن الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل تقتل أجنّـة في الأرحام .
لكن لنا أن نتساءل متى يعمـد المجتمع الدولي - والنافذون يرون ما نرى- أن يعمد لإيجــاد تعريف أدق لهويتـه، وتحديد أشراطٍ تتصل باحترام إنسانية بني البشر لمن يتأهل لعضويته، وأن يلتزم ذلك المجتمع بصياغة ما يجمع عليه أعضاؤه من قيم ومباديء وسلوكيات ، تتجاوز مواثيق لم تعد أطراف عديدة تحترمها، وتتعامل معها بغطرسة . لقد توافق ذلك المجتـمـع الدولي على ميثاقٍ رصينٍ للأمم المتحـدة ، ظلّ نظاما يحكم العـالم ويحفظ أمنـه وسلامه منـذ عام 1945م، لكن يكاد يجمع من يتابعـون أحوال العــالم بعيون فاحصة أنه - وإثر تفاقـم الإضطرابات والمواجهات والحروبات الماكرة والمعـقـدة، قد خسر بالفعل الكثير من مصداقيته..
(5)
إنّ ما تشهده البشرية من تحديات عالمية ماثلة، وبعضها أكثر تعقيداً ، من صـراعات وخلافات وحروبات هي من صنع البشر، يسـ توجب نظراً متجدداً لتوافقٍ دوليٍّ جديد ، يتجاوز مقرَّرات حفظ الأمن والسلم الدوليين ، ممّا حملته مقررات ميثاق الأمم المتحدة الذي صيغ منذ ما يقرب من الثمانين عاماً. ما أكثر وأعقد تلك القضايا العالمية التي تواجهها البشرية ، وإن جرت مساعٍ حثيثةٍ لمعالجتها خلال العقود الأخيرة ، لكن بقيت خطورتها تتفاقم عاما بعد عـام . من خطورة تلك القضايا ، أن انبرت كيانات في المجتمع الدولي المدني ، لتبادر في دعم جهـود المعالجات الدولية المطلوبة ، فالفتوق أوسع من أن ترتقها الجهود الرسمية الدولية. إنّ القضايا التي تهدد بقاء الحياة على البسيطة ، وجـلّـهـا من صنع الطبيعة وإن كان بعضها جــرّاء ســلوك واستعمال بشري غير محمود، تشمل دون حصر : تغيّـرات المناخ وتحوّلات البيئة الطبيعية كالاستحرار، وتلوّث البيئة، وحرائق الغابات، ومسبّبات الأوبئـة وصراع البشــر على المــوارد المتناقصة كالمياه والطاقة ، لأدعى لأن يتوافق المجتمع الدولي - وبعد تعريف أشراطه- لصياغة مواثيق ومعاهدات وتوافقات تجعل الحياة البشرية ممكنة، وتجعل كـرامة الإنسان هـدفا سـاميا دون كل الأهداف الأخرى.
(6)
بات إمعان النظر في كلّ ذلك، واجباً ملحّاً يدفع المجتمع الدولي لتجاوز معالجة قضايا السّـلم والأمـن ، بما هو أبعد عن جذور مسبباتها الحقيقية، فيصير الحال أشبه بحال من ينشغل بالجليد على قمة الجبل ولا يرى الجبل نفسه. إنَّ السلم والأمـن الدوليين ، مما لا يمكن تحقيقهما عبر إرسال قوات دولية لاحتــواء صراعات وحروبات تنشأ هنا أوهناك. بل الأدعى والأوجب التوجه لمعالجة أصول مسبّبات تلك الصـراعات والحروبات حول أزمــات صنعـتها الطبـيعـة وللبشـر دور في إذكائها . إن الكـرامة الإنســانية لأسـمَى من أن تترك لمعالجات أمنية محضة. إن الدبابة الإسرائيلية لن تؤمِّن لتلك الدولة المصنوعة مستقبلها بشــن حــربٍ على مســتقبل الفلسطينيين، إذ لن تحل أزمة شـعب اغتصبت ونهبتْ أراضيه ، بالســعي لإبادته وجعل غـزة مقبرة لشبابهم ونسائهم وأطفالهم . إنَّ هجرة الأفارقة نحو أوروبا، وما انطوتْ عليه من مخاطر حيوات أناس تلاعب بمصائرهم تجـار بشر طامعون، لن تحلّ باتفاقيات أمنية مثل تلك التي اقترحها رئيس تونس على أوروبا، ولا بأسوار تشيّد في الحدود بين البلدان كما جاءت على ذهن ترامب الرئيس الأمريكي السابقلحل معضلة حدود بلاده مع المكسيك .
ولا تبعد عن كلّ ذلك، صراعات تدور حول موارد الطبيعة، مثل إنشـاء سدود تتجاهل حقوق أطراف تشارك في مياهها، أومهددات حرائق الغابات ومخاطر تلوثات البيئة ، إذ تعجز الحلول الأمنية حيالها إلا إذا تمتْ معالجة مسبباتها الجذرية. .
(7)
لعل على المجتمع الدولي العاقل ، أن يجنح للحفاظ على مصـداقـيته، بإعــادة النظـر في مواثيق دولية توافق عليها منذ عـقـود وآن أوان مراجعتها ، على ضوء ما اسـتجدَّ من تحــديات ومن وقائع اسـتلزمت أخذ جـذوره ومسبَّباته في الاعتبار، وبتركيزٍ أكبـر واهـتـمام جـاد وعظيم بقيمة الكرامة الإنسانية . لنا أن نتذكّر أنّ هيئة الأمـم المتحــدة القائمة الآن، لم تنشأ إلا بعـد أن فقدتْ عصبة الأمـم القديمة مصداقيتها حين تفاقمت مهدّدات الأمن والسلم الدوليين ، فحمل ميثاقها ما حمل من تركيز على هاتين القيمتين.
الآن وقد شهدتْ العقود الأخيرة جولات من الصراعات والحروب، مثلما شهدتْ مهدّدات سببتها الطبيعة ، وأهـدرتْ خلالها حيوات الملايين من البشر ، ممّا اســتوجب إيلاء اهتمــامٍ أكبـر بالقيم الإنسانية التي لحقها إضرار متفاقـم جرّاء تلك التحوّلات.
وبعد أن تأكد أنّ الشعوب هي التي تدفع أثمان هذه التحوّلات السـالبة ، سواءاً تسببت فيها الطبيعة أو البشر، فقد صارت الحاجة الآن لأن تكون المواثيق الدولية في صياغاتها الجديدة، أكثر استجابة للدواعي الانسانية التي تحفظ للبشر كرامتهم وحقـوقهم في الحياة، خاصـة وقـد صارت الشعوب هي من تدفع تكلفة تلك الإضطرابات والأزمات والصراعات . هــي حقــائق ينبغي أن تحملها المواثيق الدولية التي باتت مراجعتها لازمة وملحة، بكامل المسئولية لتعالج جذور مسبّبات ما يهـدّد الأمن والسلم الدوليين، وليس الانشغال بالمعالجات الأمنية التي تكتفي في قصورٍ ظاهر، بظواهر الفروع لا بأصول الجذور.
إن كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قد أجيز في عام 1948م، بعد التوقيع على ميثاق الأمم المتحدة بثلاثة أعوام ، فإنه ينبغي وفي الظرف الماثل أن تكون مقررات ذلك الإعلان مضمنة في صلب ميثاق الأمم المتحدة الجديد، إذ الكرامة البشرية مقدمة على الأمن والسلم الدوليين. .

26/10/2023
////////////////////////

 

 

آراء