وللفرح في السودان قضية

 


 

 

 

(من وحي الوجدان)

إنقضى البارحة زواج فخيم جدا ماديا ، بحسب سقف الفخامة التي نعرف بين أهلنا الآتين من الريف، وانقضى عرس وزفة اثنين من ابنائي ليلة البارحة في جو مشحون بالفرح الغامر الشجي ، وفي العرس ألف ليلي ترقص ، والف من يغني لليلاه وبطريقته الخاصة ، وكانت ليلاي ، سرح وسبح في تلك الايام المخزونة في الوجدان .
*نعم حضرت ذلك الحفل لأشياء كثيرة .*
شيء في نفس يعقوب ، حملني والله لأستعيد من الوجدان ، ماضي الفرح في سني العمر ونحن نغوص في حفلات الزواج حتى ننسى انفسنا ايام الشباب العامرة بالتوهج الروحي والنرجسية وتعظيم الذات وتفخيمها ، حتى لا يرى الواحد فينا أي واحد غيره ، أفخم منه ولا أنضر وأندى شبابا ولا أعز نفسا ولا اقرب لنفوس الآخرين سواه ، في الفرح الجمعي ، بل يرى نفسه ، انه مركزية كل شيء في الحفل ، وكأن ضياء الحفل وانواره تشع فقط من "رتينة" نفسه المتوهجة.
البارحة حضرت ذلك الحفل مختبئا خلف الانوار بالطبع ، نسبة لأن غراب رأسي قد شاب ، وقد زرعت حواشيه بحواصل المشيب ، ما جعلني أضع يدي اليسرى على ذقني طيلة الحفل مراقبا ، وسعيدا ، ومتأسيا ايضا ، ومندهشا ومستغربا في خليط من مور النفس واوارها الداخلي ، حتى وانا خلف الاضواء د
الأسباب في ذلك المور ، كثيرة ، ومنها فعائل الغربة الطويلة ، حرمانها واشتهاءاتها ، ولوعاتها وذكرياتها ، وحرمانها وترفيفها وتجميدها لاشياء كثيرة مخبوءة في النفس تجاه الاهل ، والغربة حجبتنا حتى عن معرفة بعض اسماء الناس لعلهم يعذرون ، ومعرفة بعض الوجوه الطيبات ، فكنت اتمعن في شاشة التلفاز القريبة مني ، عساني استعيد بعض الوجوه التي اعرف شخوصها ولم يغيبوا عني طيلة فترة غيابي عن اصحابها، من النساء والرجال.
لاقيت في تلك المناسبة كثير من الأصدقاء والأخوات بعد فراق طويل ، وكانت جوامح النفس تشدني الى من لقيت ، و تدعوني لكي احتضن اي واحد وواحدة منهم ، بما يشبع النفس .
*الغامر* في شكل الحفل من مستجدات ، أن شكل المغني نفسه وحراكه وهو يتقافذ في الهواء كشيطان مريد ، في إجادة تامة للتزامن مع ايقاعه ، وصوته اليانع الماتع القوي ، وتماسك طبول جوقته وارتفاع أزيزها من المكبرات العتية ، قد ادهشني فعلا ، ونقل عندي صورة ومستوى الأداء ، مقتبس من حياة وثقافة ، الجيل الرقمي "جيل الديجتال " ، وان مستوى الاداء الطامح العتي ،، لا يترك لأي فتى او فتاة حيلة وصبرا وتماسكا ، إلا ان يجد نفسه ، كالدرويش يرقص وسط ساحة الرقص المكتظة اساسا ممن دعتهم تلك الأزات للذوبان في صرعة التوهان.
الأولاد والبنات تلاحموا في الحلبة ونسوا انفسهم في انساجم واتساق مع اصوات الموسيقى ، حتى لتظن ان اي واحد فيهم ، وواحدة ، عازف هو نفسه ، يحمل جتارا او يدق طبلا ويغني.
الغريب في الأمر ، ان الجميلات المدهشات في ذلك الحفل تأتي الواحدة فيهن وعلى وجهها طبقة سميكة من المغبشات والمبيضات ، وكثير منهن لا يحتجن اساسا لمبيض او حتى لتلميع زائد، غير أنهن يشوهن وهج وجههن التي غمرها الله بالنعم من الجمال بمسخ لا داعي له ، وتجمل مبالغ فيه.
نساؤنا في بيوتنا يشكين من " الرطوبة" والقضاريف وأوجاع الظهر حتى لتشفق على احداهن اذا احتجت ان ترسلها لكوب ماء ، لكنهن البارحة كن كالفراشات الخفيفة، وكأعواد الخيزران يتمايلن مع العزف حتى لتكاد الواحدة منهن تطير من إفراح النفس ، (دخلت الجوقة لأهمس في آذانهن " ما نسمع واحدة تاني تقولي عندي رطوبة").
ما أدهشني في الامر وما آساني ،، رؤية *إحدى زميلات العمر* في وسط الجوقة ،من الجيل الثاني من جيل السبعينات ، الذي حضرناه ، يانعين ، وغمرنا فيه بإستقبال " الحضارة اياها " ، ايام دخل على امزجتنا ووجداننا الثقافي، وطبعا الرزين ، ثقافات القيتار والبيتزل والخنافس والروك اند رول والشارلشتون، وهجرنا بعده "الثوب الابيض الانيق " الى غير رجعة ، في الاحتفالات ، ودلفنا في ايقاعات بوب مارلي ومياكل جاكسون نتمايل مثل كوابيس الجن .
لم اعرف بالطبع تلك المراة ، لكني والله عطفت عليها ودعوت لها في دواخلي ، من الصورة التي كانت تتداعى فيها تعبيرا عن وجدانها الدفين ، وقد ختم الزمان على وجهها كما ختم على وجهي وبصم بطبقات من سني الوقار ، وخبأ ملامحي حتى وصفني أحد اصدقائي الاشقياء " بأني اصبحت كالنيقاتف" والنيقاتف كما لا يخفى على الناس هو ذلك التشكيل للصور قبل اخراجها في شكلها النهائي ، ويرى الوجه النيقاتيف، كملعقة مكسورة داخل كوب ماء، تلك هي افعال الدهر ومياه الغروب ، اعجبني ذلك الوصف الرائع من ذلك الشقي ، وصدقته بالطبع على ان جلوجيا الوجه تترآى لي في المرآة كل مرة بأخاديد غائرة لا تسقطها عين.
"رواية سعيد " تحكي حاله وهو يتراقص في الحفلات بعد سن الخمسين ، مدفوعا ببواقي في النفس لم يعبر عنها ايام الصغر بعد ان أصبحت كوامن مكومة ومحصلة فواقد ، كمحصلات مخزون نفسي ،،لابد ان تجد طريقها للتعبير ، ولابد من ايصال "سلك ارضي" لإفراغها ، إن غلبة الارادة ، في مثل هذا الحفل، او ان تجد نفسها لدرب الله ، (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ، فيكتفي.
كان كثير من الاسئلة يدور في خاطري ، وانا ارى حزمة من فراشات الشابات والشباب ، بعضهم يموج فوق بعض في بيئة تخمر العقل والوجدان وتنسي الوقار ، بإيقاع واحد ، وربما بفهوم ومنطق واحد ، ان هذه الأشياء ، هي الاشياء ، وبغض النظر عن نوع اي مكتسب واي تراث واي ثقافة واي تربية دينية كانت ام دنيوية ، وأتساءل ، هل نتاج ما ارى هي تلك الفواقد الوجدانية التي تصيب الضيوف المغتربين مثلي ، في مثل هذه الحالات ، ونحن ما زلتا نحتفظ بالطبع القديم والدقة القديمة وامزجة "الكوامر" وان حكمنا عليها قد عفى عنه الزمن ، واندثر مع الاجيال السابقة بخيرها وشرها؟ ام أن عوامل التغريب وقشور محصلة الثقافة المستوردة الآنية ، هو الذي يجعل المغني امامي وكأنه واحد من شياطين مغني "القروب فايف" ومادونا ومايكل جاكسون، في زمني ، لكنه اكثر جرأة ، ويرى زبائنه من الراقصين والراقصات على ان وقع التهييج الذي يصنعه ، وهو واحد من اساليب التعبير عن الفرح ، وقد تطورت الاشياء ، فانتقلت لهذا الطور فأصبح الأمر عاديا ، ومجروحا في نظر ثقافتنا التليدة .
انا اقول الجيل الثاني لأننا اول جيل بعد جيل الوقار ، وربما اخر جيل من جيل الاستحياء ، استقبل تطورات الغناء ، بالروك اند رول و مايكل جاكسن ، ونحن اول جيل "تخنفس" في زمانه ، واول جيل نقل الرقص في الحفلات من "الصقرية" ووضع السبابة والوسطي من على جيوب الساعة ، في الجلاليب العامرة الإهاب ، الى الشارلستون البندقية ، واول من طور ثقافة "البطان" ليستقبل " رقصات التتش" ، واول من عمرت انوار حفلاتهم بالكشافات ، وودع الرتائن ، غير ان الغناء وقتنا ما زال يعمر ايضا بامزجة الحقيبة التي لا زالت مرجعية للوجدان السوداني ، فرحه ومغناه الجميل ، وان شكلتها الاجيال بألحانها وايقاعاتها الجائشة، وكانت اشكال المغنين وإهابهم تتحكم فيها شيماء الحياء والاتزان ، الذي كان يغمر دواخل جيل الستينات والسبعينات وما بعدها الى اوائل التسعينات ، وهم يطربون ويطربون ، طربا متينا رصينا ، ومتمكنا في الوجدان ومهذبا في التفاعل مع الآخر ، وكانت سمات الهدوء والاخلاق النبيلة والاتزان والرزانة والنبل هي البضاعة بين الشباب.
انا لا اعرف هل بإمكاننا التحكم في ازياء بناتنا ونسائنا واخواتنا ، وقد اصبحت "ثقافة الشفيف من الثياب" ، وثقافة الوجوه الملونة كعادات قبائل الماساي ، وقبائل الانكى في امريكا الجنوبية ، واساليب الزركشة في الثياب ، والتبهرج الزائد ، اصبحت قضية ، وان تعاطي الفرح بهذه الصورة ، اصبح قضية اخرى ، رغم ان الجمال زاد جمالا ، واصبحت الوجوه اكثر رغدا وفتنة ، فلا تحتاج اساسا لهكذا "مكيجة " وعروض ، ام ان بضاعة الوهم في سوق نخاسة بيوت المكاييج والتجميل ، اصبحت واقعا ، ودينا ، سوف لن نستطيع معها قول "صه" ، وجمال شبابنا "ماشة"، والنبيح يزيد؟.
المرأة السودانية اصبحت تتعامل بوجهين ، "وجه على بلاطة" في بيتها ، واصبح عندها زيان، زي في بيتها ، تظهر فيه بمظهر المسكين ، رقاعا قديمة ووجه على بلاطة ايضا ، وفق ثقافة التقادم والأعتياد القاتل ، ولكنها عند الاستعداد للحفل فإن أنيق الثياب والتكحل والتبهرج والزينة تفوق زينة الاولين والاخرين ، وبعض من معشر الرجال ، لا يعرف لها ، ولم يرى من قبل كثيرا من ثياب زوجته ، او بنته او اخته ، ولم ير ذلك الوجه المليح ، واللاصف ، وذلك الجمال منذ زمان بعيد ، حتى اذا رآها من بعيد ، شقف بزوالها ومثالها وإهابها ، هل يا ترى ما يحدث من نساءنا هو نتاج ذلك الفاقد الروحي والوجداني ، الذي ترى به زوجها في البيت ايضا شخصا اخرا ، يفتقد كثير من الحواس ويبخل بوجدانه وانسانيته ويظهر بالتقادم ، يظهر امامها ايضا وكأنه حطاب ، يظهر بكل غبشته وشقاء شكله ، ويتصرف في زيه مثقلا بالرقاع والفتق ؟ وان ليس لها المسكينة ، غير اشباع رغبتها حين التجهز لمناسبة فرح وغمر نفسها بالتطيب والثياب لتشبع انسانها ووجدانها ، ودواخلها ، مضطرة للظهور بذلك الشكل القشيب لتفرح ؟
*أين نحن الآن والى أين نسير* ؟

الرفيع بشير الشفيع
"من وحي الوجدان"

rafeibashir@gmail.com
///////////////

 

آراء