الحوكمة وإدارة الأزمات

 


 

 

‫تُعرف مفردة الحوكمة وفق ما صدر عن مجمع اللغة العربية بأنها مرادفة لمصطلح "الإدارة الرشيدة". ويعود أصلها إلى كلمة إغريقية قديمة هي "governance"، ويُعرف آخرون الحوكمة بأنها مجموعة من الأنظمة والضوابط التي تنظم العلاقات بين أصحاب المصلحة، هدفها هو تحقق مجموعة من المبادئ تشمل العدل والشفافية والمساواة. وزاد الاهتمام بتطبيق الحوكمة ضمن أولويات التنمية لضبط العلاقة بين حوكمة القطاع العام ومكافحة الفساد، خاصة مع تنامي ظاهرة شح الموارد وزيادة الضغوط عليها، وسرعة تطور احتياجات الخدمات على نطاق واسع. إضافةً لتجارب الدول في إدارة الازمات الأخيرة التي ضربت العالم (مثل جائحة كرونا) والتقلبات المناخية المختلفة التي أصابت دول عدة مثل الأعاصير والفيضانات، تلك التي رسخت لمنافع ومزايا وجود جهاز خدمة مدنية أكثر مرونة واستجابة، وبمقدوره دمج إدارة المخاطر والوصول إلى المخصصات الطارئة في حالات الطوارئ.‬‬‬‬‬‬
وتبدأ الحوكمة في تطبيقها لممارساتها عبر بناء نظام متكامل يقوم بتحديد السلوكيات التي تخدم مصالحها والتحكم فيها، وحض قادة الأنظمة في المؤسسات على اتخاذ القرارات الأخلاقية المناسبة من خلال تطبيق جيد للتشريعات والقوانين بشفافية، مما يساعد الحكومات والمنظمات أن توظّف هذا الدور من أجل إنتاج نظم فعّالة تحقق نتائج جيدة واستبعاد الأنظمة غير الجيدة.‬ وتعد الاستجابة الفورية لأنماط العمليات الحكومية أحد أهم المقاييس عند تقديم الخدمات والتفاعل مع المواطنين. ويمكن أن تشمل خيارات التقنيات الحكومية لتحديث الخدمات المقدمة للمواطنين والشركات بحيث تتسق بين الجودة والاستدامة، كما تعزز من تطبيق الحوكمة بفعالية، وتجعل من تنمية الدول ومؤسساتها الخدمية أمراً مستداماً.
وأشار تقرير لمجموعة البنك الدولي المنشور في نوفمبر2022م حول "الحوكمة" إلى مساندة قطاع الممارسات العالمية للحوكمة للبلدان المتعاملة مع البنك الدولي لمساعدتها في بناء مؤسسات تتمتع بالقدرة والكفاءة والانفتاح والشمول وتخضع للمساءلة. ‫ويعد هذا أمرا حيويا للعودة إلى النمو المستدام بعد انحسار أزمة كورونا، يتصدر هدفا البنك الدولي لإنهاء الفقر المدقع وتعزيز الرخاء المشترك، ‫من خلال بناء قدرة الحكومات على توفير المنافع العامة بفعالية، والمساندة في توفير بيئة قادرة على خلق فرص العمل والنمو، بالإضافة لدور المواطنين في هذه العملية الذي يوصف بانه أكثر أهمية الآن من أي وقت مضى. ‫لذا فإن الأقطار التي تمتلك مؤسسات قوية لها إمكانية أكبر على الصمود، وقدرةً أشد على تسهيل نمو القطاع الخاص، وعلى الحد من الفقر، وتقديم خدمات ممتازة للمواطنين وكسب ثقتهم.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ويشير ذات التقرير إلى المعايير العالمية التي ترتكز عليها إستراتيجية الحوكمة، التي تعتمد ترتكز على عنصر أساسي يتمثل في" الإدارة المالية العامة"، حيث أن ضعف أنظمة تلك الإدارة من يعتبر من أكبر معوقات الجهود الرامية إلى تحويل أهداف التنمية إلى واقع حقيقي ملموس. ويهدف البنك الدولي، بحسب ما جاء في تقريره المشار إليه، إلى مساعدة ومساندة البلدان المختلفة في عمليات ضبط الموارد وتحسين الإنفاق، وذلك ضمن إستراتيجيات وسياسات لتحقيق أهم أهداف التنمية المستدامة المتمثلة في هدفي "إنهاء الفقر المدقع" و"تعزيز الرخاء المشترك"، عبر صياغة أنظمة سليمة للإدارة المالية العامة من خلال عناصرها العديدة المتمثلة في كيفية عمل تلك الإدارة، وتحليل الإنفاق العام وكفاءته، وإدارة الاستثمارات العامة، وإدارة الأصول والخصوم، وإدارة الخزانة والنقدية، وإعداد التقارير. ويتم إنجاز كل تلك الأهداف في إطار من الشفافية، والمساءلة والرقابة على المال العام.
ويُعد توجيه الموارد المالية للدولة، خاصة الإيرادات الضريبية، نحو الأولويات الإنمائية من أحد أهم مقومات الإدارة المالية العامة الرشيدة للإيرادات، من أجل خدمة تمويل الاستثمارات في الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والصرف الصحي، والسلامة العامة، والنقل. ويشير تقرير البنك الدولي المشار إليه في هذا الجانب إلى دور البنك في تقديم المساعدات الفنية للبلدان وتزويدها بالمعارف والأدوات اللازمة عند إعداد سياساتها. كذلك يقدم البنك الخدمات المعرفية وتنمية القدرات في مجال إعداد التقارير المالية ومراجعة الحسابات، مما يساعدها على تحسين إداراتها الضريبية لزيادة الإيرادات العامة، ومحاربة التهرب الضريبي، ومراجعة الشفافية لشركات القطاع العام. واستفادت بالفعل عدد من الدول في مختلف القارات من مثل تلك المساعدات الفنية والمعرفية التي قدمها البنك. وتعتبر حوكمة الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة من الأهمية بمكان، حيث تُعد تلك المؤسسات أطرافاً اقتصادية فاعلة ومهمة في استقرار المالية العامة. كذلك تؤدي حوكمة الشركات والمؤسسات المملوكة للدولة أداوراً مهمة في تقديم الخدمات في القطاعات الرئيسية مثل الطاقة، والمياه، والنقل وغير ذلك.
ودائما ما تؤخذ في الاعتبار نظم الحكم الوطني ونظم مركزية (أو لامركزية) الحكم عند اعداد السياسات المالية العامة للدولة. والسبب هو أن طبيعة النظام الحاكم تحدد وتسيطر على مسئولية تقديم الخدمات العامة والإدارية الأساسية، وتقاسم الانفاق العام والاستثمار والمسؤوليات على نحو فعال، وما يعقب ذلك من مساءلة بين مستويات الحكومة المختلفة. وتشير تجارب العديد من الدول إلى المنافع الجمة الناتجة عن تحقيق اللامركزية في تقديم الخدمات للمواطنين. ويعد دور المواطنين ومشاركتهم في تطبيق الحوكمة في مجال تقديم الخدمات أمرا بالغ الأهمية، وذلك عبر مراقبتهم لمستوى الخدمات التي تقدم. ويجب أن يُؤَدَّى هذا الدور عبر قنوات منظمات المجتمع المدني والصحافة، والتي تضع المؤسسات العامة تحت آلية تضمن الشفافية والفاعلية والخضوع للمساءلة. هذا بالإضافة للمساهمة في إيجاد حلول مبتكرة لتحديات التنمية. إن الاهتمام بإدراج الرقابة المجتمعية عبر مؤسسات المجتمع المدني الرسمية هو أحد أدوات حوكمة الدور الرقابي، بصورة هيكلية للمستوى التنظيمي. هذا بالإضافة إلى الأدوار الهامة التي تقوم بها جمعيات حقوق المستهلك في تقديم المعلومات الحقيقية بصورة أفضل للمواطنين، مع توفير القنوات القانونية الرسمية لهم. ويتيح كل هذا وغيره الفرص لإخضاع الحكومات للمساءلة من أجل مزيد من الفاعلية، وذلك من شأنه أن يجعل الحكومات أكثر استجابةً لاحتياجات مواطنيها.
وفقاً لتقرير الحوكمة الصادر من مجموعة البنك الدولي عام 2022م هنالك، كما ذكرنا آنفاً، تجارب مختلفة لعدد من الدول في الاستفادة من الأدوات المعرفية والفنية المقدمة من البنك الدولي في تطبيق أنظمة وأدوات الحوكمة الرشيدة. وخير مثال لذلك هو دولة البرازيل في استخدامها لأدوات تحليل البيانات كوسيلة لردع الفساد، مما ساعد في تحسين عملية الكشف عن الاحتيال في بنود الإنفاق العام، وتوفير الموارد القيمة، وزيادة فعالية عمليات مراجعة الحسابات والتحقيقات. كذلك استفادت دولة ألبانيا من مشروع تقديم خدمات تركز على المواطنين ‫منذ عام 2014م، حيث حصلت على قروضٍ ومساعدات فنية من البنك الدولي لمساندة تحديث الخدمات الإدارية، وأفلحت بالفعل في إنشاء هياكل البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات من أجل تقديم الخدمات الإلكترونية، وإعادة هندسة إجراءات الأعمال، وإنشاء مراكز خدمات المواطنين. وفي أفريقيا استفادت تونس أيضا في مجال التحول الرقمي للخدمات العامة التي تركز على المستخدم ‫في عام 2019م، بمساعدة من مجموعة البنك الدولي لتحسين إمكانية الحصول على خدمات مختارة للحماية الاجتماعية والتعليم، وجودتها والمساءلة بشأنها. واستفادت الهند كذلك من ذات المشروع الدولي في مشروع تعزيز قدرة المواطنين على الحصول على خدمات فعالة في مجال تحسين فرص الحصول على الخدمات العامة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ومن المعلوم أن التقدم التكنولوجي الواسع الانتشار أظهر الفوارق في أداء الحكومات في مختلف الدول، حيث تتسم الحكومات التقليدية بضعف أداء الخدمة المدنية، وهشاشة هياكلها. وفي المقابل أتاحت التكنولوجيا للإفراد رؤية أعمق حول جودة حكوماتهم ومقارنتها بأداء الحكومات الأخرى. لذلك تقوم بعض الحكومات في الدول الأكثر استقرار بعملية تقييم للبيئة المستقبلية أو ما يسمى بـ "الحوكمة الاستباقية"، وهي التي تعني التنبؤ بالخدمات التي يحتاجها المتعامل بناء على احتياجاته وأحداث حياته وذلك استنادا على البيانات والمعلومات والوثائق التي تقوم الحكومة بجمعها لتكوين استراتيجية مستقبلية يتم اقتراحها وتقديمها للتنفيذ في الوقت المناسب. وهذه المرحلة تتطلب منهجية استباقية في دور القيادة تستهدف تطوير مهارات القادة في التعامل مع التغيرات السريعة وغير المتوقعة في البيئة التنظيمية.
ويتطلب تطبيق هذه الحوكمة الاستباقية تطوير الاستشراف الاستراتيجي، وتوفير تقنيات متطورة لجمع المعلومات وتحليلها لاتخاذ القرارات المستنيرة، ووجود كادر بشري رفيع التدريب يتولى التخطيط للاحتمالات، وتقييم المخاطر في سياق القيادة الاستباقية، والموازنة بين الاحتياجات قصيرة المدى والرؤية طويلة المدى. هذا بالإضافة للتأكيد على التعلم من القرارات السابقة والتحسين المستمر. ويجب كذلك ألا يغفل المخططون الاستراتيجيون عن عمليات توصيل رؤية التغيير واكتساب تأييد أصحاب المصلحة، فيما يعرف باستراتيجيات "إدارة مقاومة التغيير" لتكوين ما يعرف بالقيادة التعاونية والعمل الجماعي متعدد الوظائف، والمساهمة في إيجاد حلول مبتكرة لتحديات التنمية المعقدة.
نخلص إلى أن الكثير من دول العالم، خاصة الدول الأقل نموا، تعيش في مرحلة انتقالية على الصعيدين السياسي والاقتصادي الذي ينتج ما يعرف بحالة من "عدم اليقين الاستراتيجي"، الذي يحدث لأسباب مختلفة ومتعددة منها الحروب والتغيير المناخي المستمر الذي يتسبب في تقلب أسعار المواد الغذائية، وتدهور الخدمات الأساسية في مجالي الصحة والتعليم، ويقوض أحد أهم أدوات التنمية والرفاه الاجتماعي. وتلك من الأمور التي قد تقود إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي في عدد من الدول مما قد يغير من الديناميكيات الجيوسياسية الإقليمية مستقبلا. لذلك ينبغي أن تسارع حكومات تلك الدول بتطوير استراتيجيات للتعامل مع المواقف المحاطة بالكثير من الضغوطات وحالات عدم التوقع. ويجب على قادة تلك البلدان تقييم البيئة المستقبلية (التي قد تكون مختلفة عن البيئة الحالية)، وتكوين رؤى ثاقبة حول القيادة من خلال تعزيز التفكير النقدي واكتساب القدرة على تقييم المعلومات واتخاذ القرارات الاستراتيجية لدفع المزيد من التغيير الإيجابي.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء