السودان ومصر: علاقات أزليَّة أم مطامع أزليَّة

 


 

 

أُصيب بعض السودانيين بصدمة بالغة من العبارات العنصريّة والشتائم المٌقذِعة التي صوّبها الألوف من جماهير النادي الأهلي المصري نحو لاعبي الهلال السوداني بشكل بدا مُنظّماً ومُعدّاً له تماماً، كما ظهر بالصوت والصورة في الفيديوهات المُتداولة، الأمر الذي يجعله مُخالفاً من هذه الناحية للتجاوزات العنصريّة الفردية التي تحدث أحياناً من بعض المٌتفلّتين في ملاعب كرة القدم العالمية.
ما الذي ولّد هذا الإحساس بالصدمة لدى السودانيين المُشار إليهم أعلاه؟ للإجابة على هذا السؤال، لا بٌدّ من العودة إلى الوراء قليلا في التاريخ، إلى اللحظة التي تشكّل فيها المشروع الاستعماري الغريب والشاذ الذي عٌرِف بالحكم الثنائي الإنجليزي المصري للسودان. وهو غريب وشاذ لأنّ الدول عندما تهاجم بصورة ٌمشتركة دولة أخرى وتهزمها، قد تقتسم أراضيها فيما بينها وفق ترتيب مٌحدّد، وهناك أمثلة كثيرة لذلك على الصعيد الدولي، ولكِنّها لا تُخضع الدولة المهزومة لحكم ثنائي. قِيل في هذا الصدد، إنّ إنجلترا فعلت ذلك، على الرغم من أنّ مصر كانت خاضعة هي الأخرى لها من الناحية العمليّة، لأنّها كانت تودّ استغلال مطامع حكومة مصر في العودة للسودان بتحميلها فاتورة الإنفاق على الحملة العسكرية المتوجِّهة إلى السودان. ومن المعلوم أنّ الثورة المهدية كانت قد قضت على حكم أسرة محمد علي باشا للسودان وطهرته من الاحتلال الأجنبي. ومحمد علي باشا وورثته كما هو معروف، هُم حُكّام مصر بتفويض من الخلافة العثمانية.
خلق الحكم الثنائي إيّاه الوضعيّة الفريدة التي نما في رحمها بصورة مزدوجة، التصوّر العاطفي، من الجانب السوداني، والنهج العملي النفعيّ، من جانب مصر، لقضية وحدة وادي النيل والعلاقات الأزليّة بين البلدين وهلُمّ جرّا. ولمزيد من التوضيح، فإنّ الأمر الذي قاد إلى هذه الازدواجية في النظرة إلى العلاقات بين البلدين، من جانب كلٍّ من السودان ومصر، يكمن بوضوح في ثنايا وضعيّة الحكم الثنائي ذاتها، لتكوّنها من مستعمر أوروبي ومسيحي(إنجلترا) يلعب دور الشريك الأكبر، ومستعمر أصغر في دوره (مصر) تجمعه مع معظم أهل السودان روابط الدين واللغة والثقافة العربية.
فمن بين ثقوب هذا المدخل المُلتبس، نشأ وضع فريد أخفى أمام العديد من السودانيين تماماً مقْدَم مصر بمعيّة الانجليز كجيش غازٍ ومحتل. ولا يهم أنّ دورها انحصر عملياً في خانة الشريك الأدنى، فمصر، وحتى لحظة استقلال السودان، لم تُخفِ مُطلقا رغبتها الثابتة في استعادة السيادة على السودان.
هكذا إذاً، وباسم الكفاح المشترك في البلدين ضد الاستعمار الإنجليزي، انخرط معظم متعلمي السودان في ذلك الوقت في الدعوة لوحدة وادي النيل وطرد الاستعمار الإنجليزي من البلدين، في عملية غسل وتبييض كاملة لدور مصر الاستعماري وهدفها المُعلن باستعادة السيادة على السودان حتى وإن تم ذلك بأسلحة وقيادة أكبر إمبراطورية استعمارية في ذلك الوقت حصدت آلتها الحربية أرواح ألوف السودانيين في كرري وغيرها في مجازر معلومة. وأصبح التناقض الرئيسي مع المستعمر الإنجليزي هو الحاضر الأكبر في الذاكرة السودانية. ولم يُزح التناقض الثانوي مع الاستعمار المصري جانباً فحسب، بل تحوّل إلى نقيضه. تحوّل إلى وهم المصير المشترك والكفاح المشترك وما إلى ذلك.
على هذا الوتر الحسّاس عُزِفت الألحان التي برّأت مصر تماماً في أعين العديد من السودانيين من فظائع غزو محمد علي باشا حاكم مصر للسودان، ومن الرغبة المصرية النهمة في السيطرة على السودان وموارده، والتي، وللغرابة، لم تكترث مصر نفسها تاريخياً بنفيها. وفي خضم هذه العواطف الجياشة نظم أحد شعراء السودان المجيدين وصدح بكلماته واحد من أساطين فن الغناء السوداني على مرِّ الزمن المقاطع المشهورة:
مصر يا أخت بلادي يا شقيقةْ يا رياضاً عذبة النبع وريقة
مِلء روحي أنت يا أخت بلادي سوف نجتث من الوادي الأعادي

وفي الحقيقة، لا بُدّ أن أقول إن قصيدة الشاعر الكبير تاج السر الحسن من الناحية الشعرية البحتة جميلة بلا ريب، أما شدو الكابلي كلّه فأمره عجيب، إذا صرفنا النظر بطبيعة الحال عن الاعتبارات الأخرى.
بجانب عاملي الروابط الدينية والثقافية التي جمعتهم بمصر، هناك أسباب إضافية لا يمكن إغفالها قادت هذا النفر من السودانيين، أصحاب التأثير الكبير في بلادهم وقتها، بحكم تعليمهم وريادتهم، إلى التخلي عن النهج العقلاني في التدبّر السديد في أمر الجيشين المستعمرين الذين حلّا ببلادهم، والانسياق وراء تيارات جيّاشة من النظرة العاطفية لقضية مصيرية كالاستعمار، نتج عنها تجريم طرف واحد من الغزاة هو إنجلترا وإعفاء الطرف الآخر مصر من كلِّ جريرة. من بين هذه الأسباب وربما أهمّها، الانقسام في المجتمع السوداني الذي أحدثه حكم الخليفة عبد الله التعايشي بين مناطق النيل والوسط التي صارت مناوئة له، ومناطق الغرب المناصرة له، والذي دفع بعض المناوئين لحكم الخليفة للتغاضي عن مطامع مصر الاستعمارية في السودان بل واتخاذها حليفاً لهم. ومنها كذلك، الاستثمار الاستراتيجي لمصر في مجالات التعليم والأدلجة والاستقطاب للسودانيين من دُعاة وحدة وادي النيل، وفي وقتٍ لاحقِ (الكاش الواحد العديل) الذي تمّ توفيره لبعضهم، كما ورد في عدد من الكتب الصادرة عن المصريين أنفسهم.
الأمثلة على النظرة العاطفية لدى السودانيين إلى العلاقة التي تجمع بلادهم بمصر، والتي تتبدّى أعلى تجلياتها في التضحية المجانيّة بمصالح السودان المشروعة من أجل خاطر مصر من قبل حكام السودان-وجُلّهم بالطبع من العسكريين الذين حرصت مصر ببراعة وحذق على توفير الدعم والمساندة لهم ضد ثورات شعبهم - على (قفا مين يشيل) كما يقول أهل الشام. من بينها، الموافقة على قيام السد العالي في الأراضي السودانية بدلاً عن قيامه في الأراضي المصرية في موضع سد أسوان على سبيل المثال، والقبول بإغراق مدينة حلفا التاريخية وغمر الآثار العظيمة الموجودة حولها، وتهجير أهلها دون استشارتهم أو رضائهم، والسكوت عن احتلال مُثلّث حلايب والشروع في تمصيره واستغلال موارده، والقبول في ظل هذا الاحتلال بإجراء عمليات تعاون عسكري مُعيبة لا تقبل بها دولة تعتزّ باستقلالها وكرامتها مع الجيش المصري في مطار مروي وسواحل السودان وغير ذلك.
وعلى النقيض من ذلك تماماً في جانب مصر، فإنّ النظرة النفعيّة الباردة إلى العلاقة التي تربطها بالسودان لم تتغيّر قيد أنملة على تعاقب الأزمان والحُكّام. جاء عبد الناصر إلى السودان بعد هزيمة إسرائيلية ساحقة، ليجد استقبالاً مُذهلاً، أظنُّ أنّه أندهش له في قرارة نفسه، من جموع السودانيين وقادتهم، والذين لم يكتفوا بذلك بل سعوا إلى رأب الصدع بينه وبين السعودية وحشد الدعم لبلاده، فكان أن كافأهم على ذلك بتأييد انقلاب جعفر نميري على الديمقراطية. وشنّت مصر في العقود الأخيرة حرباً شعواء على الإسلاميين فيها، لتقوم في ذات الوقت بدعم حكم الجبهة الإسلامية في السودان، بعد أن اطمأنت إلى أن عناصره على استعداد لتقديم كلّ ما تطلبه منهم والسكوت على احتلال مُثلّث حلايب الذي تمّ في عهدهم لأنّهم في البدء والمنتهى طلاب سلطة ومال في بلادهم. وبعد زوال حكمهم، ساندت مصر العسكر الذين سعوا لإجهاض الثورة السودانية الكبرى، لأنّ حكم السودان من قبل العسكر الذين يبحثون عمّن يساندهم ضد شعبهم هو الترتيب المثالي الذي يحقِّق لمصر هيمنتها على السودان. وهو الترتيب الذي يفوق في فائدته لمصر، من الناحية العملية، النهج الاحتلالي الاستعماري القديم لأن تكلفته المادية والبشرية أقل بكثير، إذ يتولى أصعب وأقذر الأدوار فيه الوكلاء المحليون.
لقد حان الوقت للسودانيين لإخضاع العلاقة المُعتّلة التي تربط بلادهم بمصر لميزان العقل والتحليل النقدي الصارم، والنأي بها عن مزالق التفكير العاطفي الفطير الذي ساد طويلاً. جاء في مُذكِّرات الأستاذ إبراهيم منعم منصور وزير المالية في عهد نميري- وهي مؤلف ضخم تجاوز عدد صفحاته الألف صفحة، ولا غنى في اعتقادي للمهتمّين بمعرفة التفاصيل الغريبة للسياسة السودانية في العقود المنصرمة من الاطلاع عليه- في صفحة 257 التالي نصه:
"أظهرت الوثائق التي مضت عليها فترة ثلاثين عاماً أن الصاغ صلاح سالم (أحد ضباط ثورة 23 يوليو المصرية ومبعوثها للسودان) كان على علم بالتمرد الذي حدث في الجنوب( تمرد توريت في المديرية الاستوائية في أغسطس 1955 والسودان على أعتاب جلاء آخر جندي بريطاني منه) بل إن بعض الضباط وصف الضباط الجنوبيين الذين اشتركوا في التمرد اعترفوا لقاضي التحقيق- القاضي قطران البريطاني الجنسية الفلسطيني الأصل- بأن الضباط المصريين من أعوان صلاح سالم أجزلوا لهم العطاء ثم الأماني في الترقي وفي حكم الجنوب، إذ إن الجيش المصري سيعود للسودان وسوف يحميهم من حكم الشماليين.) هذا لا ينفي بالطبع أنّ السياسيين الشماليين كانوا قد تعاملوا مع المطالب الجنوبية بالحكم الفيدرالي وقضايا سودنة الوظائف بقدر ملحوظ من المراوغة والاستخفاف.
يتحدّث البعض بعاطفية، ولا نريد أن نقول بسذاجة، عن أنّ نهر النيل هو عامل توحيد للبلدين، السودان ومصر. ولكنّ العقل والمنطق السديد يشيران إلى أنّه في إيّ بلدين أحدهما صحراوي بالكامل والآخر يضمّ مناطق واسعة صحراوية وشبه صحراوية، فإنّ موارد المياه التي يوفرها نهر كالنيل لا مفرّ في أن تكون موضع تنازُع. الفهم السليم لهذه المسألة والإقرار بوجودها هو وحده الذي يقود في المدى الطويل إلى إيجاد حلول وسط مقبولة من الجانبين، بدلاً عن محاولات التذاكي وفرض الأمر الواقع غير القابلة للاستدامة.
ما قام به ألوف المشجعين من جمهور النادي الأهلي المصري من توجيه العبارات العنصرية والشتائم المُقذِعة لفريق الهلال وللزول السوداني حسب تعابيرهم المسموعة، أمر ما كان يجب أن يكون صادماً لأحد، فهو مُتّسق تماماً مع طبيعة النظرة الاستعمارية إلى شعب دولة ما يُراد نهب مواردها والسيطرة عليها، والتاريخ يوفر مئات الشواهد على ذلك. والسبب بسيط ويتلاءم مع الطبيعة البشرية، إذ لا بُدّ من إيجاد مُبرر لعملية النهب والسرقة هذه يتلخّص قوامه في أنّ أهل البلد المنهوب هم مجموعة من الرعاع الذين لا يستحقّون ما عندهم ولا يستحقون حرِّيّتهم. لا بُدّ من تجريدهم من الإنسانية والاستهزاء بهم والصاق أحطّ الصفات بهم. حدث مثل هذا عند بدء الدول الغربية استرقاق البشر من السواحل الافريقية واستخدامهم كالآلات وبأبشع الوسائل لاستصلاح الأراضي الامريكية الجديدة، فقد كان لزاماً دمغهم بأنّهم أقلّ مرتبة من البشر. وكالعادة، لعبت الكنيسة في حلفها العتيد مع السلطة وأصحاب الأموال دورا محورياً في توفير التفسيرات الدينية التي توفِّر الراحة لضمائر تجار ومُلاك المُسترَقين المسيحيين المُثقلة. واستخدمت بريطانيا، وهي الشريك الأكبر في مسخرة الحُكم الثنائي للسودان، حجة مشابهة في نهبها المهول لموارد الهند. هذا النوع من التحايل المفاهيمي الذي يسعى إلى التغطية على عمليات السطو والنهب والسرقة الواضحة أمر لا يجب أن يكون صادماً أو مستغرباً، فللصُّ العادي (قطّاع الطروف) لا يرغب في أن يوصف باللصوصية.
لقد آن الأوان للخروج من مِعطف التفكير العاطفي الذي لا يليق بشعب ثورة ديسمبر العظيمة، والنظر إلى الأمور كما هي. لا بُدّ من تعرية آليات الاستغلال العاطفي التي انطلت على الكثيرين من أبناء بلدنا، والتي أتقنت المطامع الاستعمارية المصرية القديمة المُتجدِّدة في السودان التخفّي خلفها. فكما عرِف الناس وشاهدوا بأعينهم، فإنّه عندما يتعلق الأمر بالمصالح المصرية كبُرت أم صغُرت، كقيام السد العالي وإغراق وادي حلفا وكنوز آثارها، واحتلال حلايب، ونزولاً إلى ما كان يُفترض أن يُعدّ قضية ثانوية كمباراة الهلال والأهلي، فإن الوشائج الدينية وروابط الثقافة واللغة المشتركة، والمُتمسّك بها بإيمان العجائز لدى العديدين في الجانب السوداني، تُزاح جانبا من قبل مصر، لتُسفِر عن رؤيتها الحقيقية الاستغلالية للعلاقات مع السودان وشعبه.

محمد حامد الحاج

melhaj@gmail.com

 

آراء