حديث المهندس خالد عمر حول “فِرية” النيو ليبرالية في سياسات الحكومة الانتقاليّة

 


 

 

لفت انتباهي في معرض سرْد المهندس خالد عمر لسياسات حكومة د. حمدوك الانتقاليّة في "ورشة تقييم الفترة الانتقاليّة" النُّقطتين التّاليتين وما ساقه بشكلٍ قاطِعٍ حولهما:
1- راكمت كافة الحكومات السودانية المُتعاقِبة (ويقصد بذلك الحكومات المُتعاقِبة بعد استقلال البلاد) الدُّيون الخارجيّة وعجزت عن إيجاد حلٍّ لأزمة المديونيّة، وذلك حتى مَجِيء حكومة الدكتور حمدوك الانتقاليّة التي شرعت في ايجاد حلٍّ للأزمة عن طريق استيفاء شروط المُبادرة الدُّوليّة للدُّول الفقيرة عالية المديونيّة المعروفة بمُبادرة "هيبك" اختصاراً للحروف الأولى لاسمها في اللغة الانجليزية.
2-ما يُشاع بأنّ الحكومة الانتقاليّة طبقت السياسات الاقتصادية النيو لبرالية هو محض فِرية، لأنّ هذه الحكومة أبقت على دعم الكهرباء والغاز والقمح.
أودُّ أن أشير بداية في هذا الصَّدد، إلى أنّ النُّقطة الأولى في حديثه ليست صحيحة تاريخيّاً، فمُشكلة تفاقم المديونيّة الخارجيّة للسودان بدأت في السَّنوات الأخيرة من حكم الجنرال نميري، التي عجزت البلاد خلالها وبشكلٍ كاملٍ للمرّة الأولى في تاريخها، عن خدمة ديونها الخارجيّة. ويُقصد بذلك، توقّفها عن سداد الأقساط المُستحقّة الدّفع من أصل الدَّيْن (مبلغ القرض) والفوائد المُتفق عليها في عقد القرض المعني، في مواعيدها. وبالنَّظر إلى ذلك، وإلى الطّبيعة الجزائيّة المُرتبطة بعدم خدمة الدُّيون في وقتها، بفرض فوائد إضافيّة على المُتأخرات، تفاقمت أزمة ديون الدّولة السودانية الخارجيّة من سنة للتي تليها بصورة خرجت عن السَّيطرة. وأصبح حلّها يستلزِم تفاهُماً مع الدَّائنين للاتفاق معهم حول إعادة الجدولة والحصول على إعفاءات من بعضهم كما حدث مع عددٍ من الدُّول النَّامية الأخرى عالية المديونيّة، وبحيث يتناسب مستوى خدمة الدَّين بعد الاتفاق مع الموارد الخارجيّة المُتاحة للسودان وقدرته على السّداد.
قبل السَّنوات الأخيرة لحُكم الجنرال نميري، كان السودان يقوم بسداد التزامات قروضه الخارجيّة في مواعيدها، وكان الجنيه السوداني مُستقِرّاً في سعر صرفه تجاه الدولار في مستوى يزيد عن ثلاثة دولارات للجنيه الواحد. لم يكُن ارتفاع مستوى سعر صرف الجنيه مقابل الدولار هذا بالطبع، راجعاً إلى أنّ اقتصادنا يمتلك شركات مثل جنرال موتورز أو بوينج أو المرسيدس أو أرامكو. فالمستوى الابتدائيّ لسعر الصَّرف هو ترتيب مُحاسبيّ ليس مُهِمّاً في حدِّ ذاته بشكل كبير، وإنّما الشّيء المُهمّ هو المُحافظة على استقراره. وهو لا يعكس حجم اقتصاد البلد ووزنه في السِّياقين الإقليميّ والدُّوليّ فلتلك معايير اقتصادية أخرى معروفة. فعلى سبيل المثال، يُمكِن للحكومة الآن إصدار جنيه جديد يعادل سعره خمسمائة جنيه مقارنة مع الجنيه المعمول به حاليّاً، ليكون بذلك مُقارِباً في قيمته للسعر الجاري للدولار الواحد، واستبدال العملة القديمة على أساسه. ولن يخطر ببال أحدٍ من جرّاء ذلك، أنّ اقتصادنا قد تحسَّن فجأة بهذا المُعدل الهائل.
الأمر المُهِمّ في السِّياسة الاقتصادية هو المحافظة على استقرار سعر الصَّرف ضمن حدود معقولة ومقبولة تُساعِد على دعم جهود التَّنمية الاقتصادية وتُشجِّع نمو الصادرات. كان بلدنا يتّبِع بالفعل، قبل السَّنوات الأخيرة لحكم الجنرال نميري، سياسات اقتصادية عقلانيّة، لا تزيد فيها نفقات الحكومة الإجماليّة عن إيراداتها، حينما تزيد، إلا بقدرٍ يسير يُمكِن تغطيته عن طريق الاقتراض الخارجيّ المدروس بعناية الذي يُوظف في مشاريع انتاجيّة يفوق العائد منها حجم الاقتراض الخارجيّ والفوائد المُترتِّبة عليه.

بالنِّسبة للنُّقطة الثّانية في حديثه عن النيو لبرالية وفِريتها، وحيث إنّ المهندس خالد لم يُورد تعريفاً لها، دعْني أبدأ بذكر أبرز ركائز النيو لبرالية كما هو مُتاح عنها في شبكة الإنترنت وغيرها من المصادر، وهي تبنِّي آليّات السُّوق، وتقليص الإنفاق الحكوميّ على الخدمات الاجتماعيّة من صحة وتعليم وغيرها، وخصخصة المؤسسات العامّة المملوكة للدولة ببيعها للقطاع الخاصّ المحليّ والأجنبيّ، والعمل على تقليل قيود ورقابة الدّولة على النشاط الاقتصادي.
في هذا الخُصوص، وجدت الحكومة الانتقاليّة نفسها في وضعٍ لا تُسيطر فيه وزارة المالية إلا على نحو 18 في المائة من الإيرادات الحكوميّة، كما أشار إلى ذلك، مرّةً واحدةً فقط على ما أذكُر، وبطريقةٍ حذِرة إن لم نقُل خجولة السّيد رئيس الوزراء الأخير، كما هو معروف. وكان يقصد بالطّبع، وفي المقام الأوّل، الإيرادات المحجوبة عن وزارة المالية من قِبل الشّركات العسكريّة والأمنيّة بحسبانها جهات تتبع ملكيتها للدّولة السودانية أو ساهمت الدّولة السودانية في رؤوس أموالها، بالإضافة للموارد المُجنّبة من الإدارات الحكومية الأخرى.
في نفس الوقت الذي كانت الحكومة الانتقاليّة تواجه فيه هذا المطبّ العسير، اتخذت قراراً صعب التَّفسير، بالذّات في توقيته، إذ قامت بزيادة رواتب وأجور العاملين لديها بصورة كبيرة وغير مسبوقة، رُبما لا نكون قد ذهبنا بعيداً إذا ما قُلْنا بأنّها قد فاجأت العاملين أنفسهم. كما استمرّ الإنفاق الحكومي على ما يُعرف بالأجهزة السِّياديّة وغيرها في مستواه المُرتفع.
وبِما أنّه ليس لدى الحكومة الإيرادات من موارد حقيقيّة اللازمة لمقابلة هذه الزيادة في النّفقات، وانسداد قنوات التّمويل الخارجيّ أمامها، لجأت لتغطية العجز عن طريق طباعة النُّقود، مما قاد إلى تدهورٍ حادٍّ في قيمة الجنيه السوداني واتِّساع كبير في الفجوة بين سعر الصَّرف الرّسميّ والسّعر في السُّوق الموازي.
هذا هو باختصار الوضع الذي وجدت الحكومة الانتقاليّة نفسها فيه وهي تعمل على تلبية شروط التأهل لمبادرة "هيبك" التي تتطلّب فيما تتطلّب توحيد أسعار الصَّرف المُتعدِّدة. وهو أيضاً الوضع الذي قامت في ظِلِّ تعقيداته الرّهيبة باتِّخاذ قرار غير مسبوقٍ بتخفيض سعر الصَّرف الرّسميّ إلى مستوى السَّعر السَّائد في السُّوق الموازي، بحيث ارتفعت قيمة الدولار الأمريكي إزاء الجنيه السوداني بنحو خمسمائة في المائة في يومٍ واحدٍ، لترتفع معه بالتّالي بنفس المُعدلات تقريباً أسعار معظم السِّلع والخدمات ما عدا الكهرباء والقمح والغاز التي أُرجئت إلى حين. واكتملت بموجب ذلك، بالنِّسبة للعاملين لدى الدَّولة، الحلقة العبثيّة إن لم نقُل الجهنَّميّة التي كانوا يخشونها، إذ التهمت الزِّيادات الجديدة في الأسعار ما حصلوا عليه من زيادة في رواتبهم وأجورهم.
بالطّبع لا أحد يُطالب أو يدافع عن أسلوب العمل بأسعار صرف مُتعدِّدة لأنّه يخلق تشوّهات اقتصادية مُكلِّفة في مجالات الانتاج والاستثمار وأنماط الاستهلاك في البلاد. ولكِنّ توحيد أسعار الصَّرف أيضاً لا يجب أن يتمّ بهذه الطّريقة، التي ليس من باب التّحامل وصفها بالوحشيّة في عدم اكتراثها بذوي الدّخل المحدود ومَنْ لا يستطيعون رفع أسعار السلع التي ينتجونها أو الخدمات التي يوفرونها بنفس معدل انخفاض قيمة الجنيه.
غنِيّ عن القول، إنّ المُعالجة الاقتصادية القابلة للاستدامة تتطلّب مُخاطبة جذور المُشكلة المُتمثِّلة في ارتفاع النّفقات الحكوميّة، خاصة في الجوانب العسكريّة والأمنيّة والسِّياديّة، والتي يُفاقم من وقعها حرمان وزارة المالية من الجُزء الأكبر من الإيرادات العموميّة. لا يُمكِن اصلاح الوضع الاقتصادي في السودان دون أن يتمّ تقليص الإنفاق العسكريّ والأمنيّ والسياديّ إلى مستوى المُعدلات المعمول بها في الدُّول المُشابهة له في طور النُّمو الاقتصادي. بمعنى آخر، ينبغي أن يكون حجم الإنفاق على جيشنا وشرطتنا والأجهزة السِّياديّة لدينا، مُتناسِباً مع حجم اقتصادنا ومواردنا، كما تفعل الغالبية العظمى من دول هذا العالم. إنّ من بين أهمِّ ما أودى بحكومة الإنقاذ أنّ الصَّرف العسكريّ والأمنيّ والسياديّ فيها كان يُمثِّل لوحده ما قُدِر بسبعين في المائة من بنود الإنفاق الحكومي. ولا غرابة في أنّ مثل هذا الوضع غير قابل للاستدامة في المدى الطويل.
لقد كان من المُفترض تصدِّي الحكومة الانتقاليّة لمُعضلة حجب ثمانين في المائة من الإيرادات النّابعة من مؤسسات وشركات عموميّة حكومية عن سُلطة وزارة المالية. ومِمّا لا شكَّ فيه أنّ مثل هذه المُعالجة الاقتصادية كانت ستُدخِل الحكومة الانتقاليّة في مواجهة حادّة مع شُركائها العسكر، مثلما كانت ستتطلّب الشّفافيّة والوضوح مع الشّارع الثّائر والاستعانة به. ولكِن لحسابات تخُصّها تفادت الحكومة الانتقاليّة هذا الخيار. ولجأت بدلاً عن ذلك إلى تحميل النَّاس العاديين مُتطلبات مُبادرة "هيبك" بتوحيد أسعار الصَّرف، مع الإبقاء على الاختلالات الهيكليّة في النّفقات والإيرادات الحكوميّة في مُعظمها على حالها، بانتظار ما يجود به المانحون من مُساعدات واعفاءات للدِّيون.
يُمكِن لمن يُريد أن يُدافع عن هذا الخيار. ولكِنّ أيّ تقييم حقيقي وجادٍّ لحكومة الفترة الانتقاليّة يتّسم بالحياد والموضوعيّة لا يستطيع أن يغفل أنّ هذا الخيار قد انطوي على عجزٍ إن لم نقُل على تهرّبٍ واضح عن مُعالجة المُشكلة الحقيقيّة التي ظلت تُكبِّل الاقتصاد السوداني. وبالإضافة إلى ذلك، لا يُمكِن الزّعم بأن خيار الحكومة الانتقالية هذا مُفارق لنهج النيو لبرالية وأنّ وصفه بذلك يُعتبر فِرية كبرى، فقط لأنّه أبقى مؤقّتاً على دعم القمح والكهرباء والغاز يوم التّخفيض الرّهيب لسعر الصرف. فهو إن شئنا الدِّقّة، نيو ليبرالية ذات طبيعة بُدائية، لأنّها طبقت أسعار السُّوق بأسلوب الصّدمة العنيف في بيئة اقتصادية غير مُتوازنة وخرِبة.

محمد حامد الحاج
23 يوليو، 2022

melhaj@gmail.com

 

آراء