حول “الرجالة” والفروسيّة وذهنيّة القرون الوسطى

 


 

 

تعبير “الرجالة" المُستخدم بشكلٍ مُكثَّف عند قطاعات واسعة في بلادنا للإزراء بالخصم أو الخصوم، والانتصار للنفس أو للجماعة التي يتحدّث الفرد باسمها، هو في اعتقادي مسعى لاجترار مفهوم الفروسيّة المشهور عند قُدماء العرب، والذي لاقى أيضاً رواجاً هائلاً إبّان القرون الوسطى في أوروبا. ويشير هذا الأمر في حدِّ ذاته، إلى تجذُّر ذهنيّة القرون الوسطى بثقافتها وقيمها، في بلادنا، رغم كلِّ ما تحقّق عندنا من توسُّع في التعليم المدرسي والجامعي وانفتاح على العالم الخارجي، وهو شيء يستحقّ أن يحظى في نظري باهتمام الباحثين والمُختصّين.
في فيديو مُتداول صرّح أحد أعضاء الحركة الإسلامية بأنّه لا يوجد في الساحة السياسية السودانية من هو "أرجل" من الحركة الإسلامية. كما ظهر في عددٍ من فيديوهات الدعم السريع تفاخر عناصرهم بعدم تهيبهم القتال وبشدَّة بأسهم وضراوتهم، أو بعبارة أخرى في السياق السوداني الراهن ب "رجالتهم". ولا شكَّ في أنّ عصابات "تسعة طويلة" وكلَّ شخص عدوانيّ، يجد نفسه في وضع يسمح له باستخدام العُنف إزاء من لا قُدرة أولا رغبة له في استخدام العُنف المُضادّ، يُفاخر هو الآخر ب "رجالته".
والأمر لا يقتصر على الفئات التي تحتكم إلى العُنف المُباشر، لأنّه، وكما أشرنا أعلاه، نِتاج لذهنيّة ثقافية راسخة في المجتمع. ولهذا السبب، فإنّ له استخدامات واسعة تتجلّى في العديد من مظاهر الحياة اليومية. ويُمكن ملاحظة ذلك، على سبيل المثال، في التشدُّق بخاصيّة "الرجالة" خلال التراشُق اللفظي المُعتاد لدى بعض الباعة والعاملين في الأسواق، ولدى الصبيان في ملاعب الكرة، بل أنّ هناك ما يُشير إلى أنّ بعض النساء يقُمن، للأسف، بدلاً عن استهجان هذا الأسوب، باستخدامه في مُساجلاتهن مع خصومهن من الرجال، على الرغم من أنّ المفهوم بالطبع قائم في جوهره على تصوّر مبني على دونيّة المرأة.
ولكِنّ مفهوم الفروسيّة عند العرب، وبالذّات في العصر الجاهلي، والذي ذكرنا بأنّ "الرجالة" عند المُتباهين بها هي مسعى لاجتراره، لم يقتصر فقط على تمجيد صفات الشجاعة والإقدام والبلاء في المعارك، وإنّما أعلى كذلك من قِيم العِفّة عند توزيع الغنائم، ففي شعر عنترة:
يُخبِركِ مَن شَهِدَ الوَقيعَةَ أَنَّني أَغشى الوَغى وَأَعِفُّ عِندَ المَغنَمِ.
كما أعلى من قيمة الكرم وقِرى الأضياف، والدفاع عن المرأة، وكُلُّما ينطوي على تلبية احتياجات الآخرين. وحبّب بنفس القدر أن يتّسم الفارس برجاحة العقل والقدرة على موازنة الأمور والنأي بالنفس عن صفات الغدر والخديعة*. وفي هذا قال المتنبي:
الرَأيُ قَبلَ شَجاعَةِ الشُجعانِ هُوَ أَوَّلٌ وَهِيَ المَحَلُّ الثاني

وفي الإسلام جاء في الحديث الشريف: "ليْسَ الشَّدِيدُ بالصُّرَعَةِ؛ إِنَّمَا الشَدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ"، والصُّرَعة في اللغة هو من يصرع الناس كثيراً.
أما في أوروبا في القرون الوسطى، فقد تمّ تطوير ما يُمكِن أن يُعرف بمُدوَّنة أخلاق الفروسيّة التي تتضمّن، كما كتب مارك كارترايت**، الشجاعة والبراعة العسكرية، والشرف والولاء والعدالة والأخلاق الحميدة، والدفاع عن الأشخاص العُزَّل، والكرم خاصة تجاه الناس الأقلّ حظاً من الفرد المعني.
ويشير الكاتب أيضاً إلى أنّ الفروسيّة، كانت بالإضافة إلى ما تقدّم، رمزاً دينياً وأخلاقياً واجتماعياً ساعد في تمييز الطبقات العُليا عمن هم دونها، ووفّر وسيلة يُمكِن للفرسان من خلالها اكتساب سمعة طيبة تساعدهم على التقدّم في حياتهم المهنيّة وعلاقاتهم الشخصية.
ولعل أهمّ ما جاء به هذا الكاتب، هو إشارته إلى أنّه، وعلى الرغم من كلِّ ذلك، فإنّ أخلاق الفروسيّة هذه التي تمّ التغنِّي بها في القرون الوسطى خلال أوقات السلم، قد سجّلت في الواقع غياباً واضحاً عند اندلاع الحروب الحقيقية، والتي تواصل فيها البطش بالأعداء وقتل السُجناء والسلب والنهب، مِثلما كان عليه الحال في السابق في العصور القديمة. ولا غرابة في ذلك، فالحرب بطبعها كريهة وذميمة حتى لو اضطرّ الناس إليها اضطراراً ووُجِد لها المُبرِّر، وهي فوق ذلك غشوم كما يقول المثل العربي لأنّها تنال غير الجاني.
ينطوي كِلا مفهومي الفروسيّة و"الرجالة" على رؤية للمرأة، والتي هي نصف المجتمع، بأنّها كائن ضعيف في حاجة دائمة إلى الحماية، مع اختلافٍ في المنطلقات بين المفهومين، وذلك من استدعاء للصفات النبيلة في حالة الفروسيّة، والانسياق خلف دعاوى الذُكوريّة القُحّة التي لا تعترف إلا بمنطق القُوّة واستخدامها في حالة " الرجالة".
وغنيٌّ عن القول، إنّ هذه النظرة القاصرة لوضع المرأة في المفهومين المذكورين أصبحت شيئاً من الماضي ليس فقط في المجتمعات المُتقدِّمة، وإنّما أيضاً في العديد من المجتمعات الناهضة المعاصرة الأخرى. فقد اقتربت مشاركة النساء في سوق العمل ومناشط الحياة المختلفة في هذه المجتمعات من بلوغ مستوى معدلات مشاركة الرجال، وتزايدت بذلك الشِقّة بينها وبين الدول القليلة التي ما تزال ذهنيّة القرون الوسطى فيها رافضة للانزواء.
وفيما يتعلّق ببلادنا، وإذا ما نظرنا إلى الوضع الماثل فيها بتجرُّد وموضوعية، لا بُدّ لنا من أن نُقِرّ باستشراء هذه الذهنيّة، ليس فقط في الأوساط الشعبية، وإنّما أيضاً، وهذا هو الأخطر ربما، بين معظم النخب التي تولت الحُكم بعد الاستقلال. ولم يكُن غريباً بالتالي أن يقود ذلك، ضمن عوامل أخرى، إلى ما عليه الحال من تردٍ وتخلُّف.
ولقد ازدادت سطوة هذه الذهنيّة بلا ريب في الحقبة الظلامية لحكم الإنقاذ. ومن أراد دليلاً على ذلك، فليدرس مُجدّداً مُفردات خطابات الرئيس المعزول وأعوانه، ويُعيد تقييم الممارسات والسلوك السياسي آنذاك، ليقف على غياب فكرة المُساءلة عن القرارات والأفعال والنتائج لدى الحُكام، وشخصنة القضايا العامّة، والاستخدام المُكثّف للخطاب الديني في الشؤون السياسية البحتة، مما جعل من الحُكام محض دُعاة غير مسؤولين لأحد وغير مُكترثين أو نادمين على أخطائهم.
هذه الحرب الدائرة الآن فوق رؤوس المدنيين العُزّل المُتبقّين في عاصمة البلاد، وهم أغلبية أهلها، تُمثِّل دليلاً مأساويّاً آخر على تجذّر ذهنيّة القرون الوسطى في بلادنا عند هؤلاء المُتقاتِلين على الحكم، وعلى تشويههم حتى لبعض قِيم القرون الوسطى نفسها باختزال منظومة الفروسيّة في مُمارسات العُنف والغلبة. ولا يجب أن ينخدع أحد بأسلحة الدمار الحديثة المستخدمة فيها، أو بمنظر المباني الشاهقة التي تضرّرت منها، فالحداثة التي تُعبِّر عنها هي حداثة قشور، فالروحُ جاهلية كما قال نزار.
ومع ذلك، وعلى الرغم من قتامة الوضع الراهن، والتركة الظلامية المُثقلة لحقبة الإنقاذ التي أوسعت البلد تمزُّقاً، وأعلت من خطاب الجِهويّة، وزادت من حِدّة ورُقعة النزاع المسلح فيه، يجب ألا يُخالجنا الشكّ في أنّ بلادنا ستخرج في نهاية المطاف من براثن ذهنيّة القرون الوسطى هذه. ليس ذلك فحسب، بل أنّ شواهد هذا الخروج قد بدأت بالفعل باندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، والتي تُعتبر المعارك الدمويّة التي تدور في العاصمة هذه الأيام آخر المحاولات لقطع الطريق عليها لكيلا تصل إلى أهدافها في إقامة مجتمع الحُرِّيّة والسلام والديمقراطية والمُساءلة وفقاً لأحكام القانون العادل.
ودليلنا على ذلك، أنّ المعاصرين لقيام ثورة أكتوبر في عام 1964 وللانتفاضة في عام 1985، قد أدركوا بوضوح أنّ الفارق الأكبر بينهما وبين ثورة ديسمبر 2018 المُستمرّة لأكثر من أربع سنوات، هو المشاركة الهائلة للمرأة السودانية في الأخيرة. وفي يقيني ويقين الكثيرين، أنّه لولا تلك المشاركة البطولية للنساء السودانيات لربما كان قد تمّ الإجهاز على الثورة في مهدها. فنظام مثل الإنقاذ، بسجله الحافل بالتنكيل بالمدنيين العُزّل، تتطلّب هزيمته مشاركة جُلّ أهل البلد رجالاً ونساء.
سيأتي يوم نُلقي فيه بمفهوم " الرجالة" الذي يقوم على العُنف، بتوهّم أنّه يُمثِل قيمة اجتماعية وأخلاقية، في مزبلة التاريخ. وإن كان هناك ثمّة حنين مُتبقٍ إلى الجوانب الإيجابية في مفهوم الفروسيّة القديم، فلن نبحث عنها في بطون الكتب. فهي، وفي هذه الأوقات العصيبة، قد أخذت في التجسّد في الأعمال النبيلة التي يقوم بها شباب وشابات بلادنا لمساعدة المحتاجين، وتوفير العلاج والرعاية للمرضى، والتضامن المادي والنفسي مع من تقطّعت بهم السُبل، وفي التعاضُد الشعبي الاستثنائي الذي لمسه ووجده الذين غادروا العاصمة لأقاليم البلاد المختلفة. وتجلّت قبل ذلك ومعه، في رباطة الجأش والهدوء والسكينة البادية في سيماء من اختاروا البقاء في العاصمة، وحتى في سيماء الذين اضطرتهم الظروف لمغادرتها وأنت تراهم وقوفاً أو جلوساً على معابر الخروج ومعهم صغارهم الذين امتدّ أثر ذلك الهدوء إليهم. وأكاد أزعم أنّ هذا الهدوء نفسه قد امتدّ أثره إلى الأجانب المُقيمين في البلد، فقد شاهدنا في حالات حروب جرت في دول أخرى هلع المُضطرّين إلى الخروج والمغادرة، وهو- هذا الهلع- أمرٌ غير مُستغرَبٍ على كلّ حال عند من تأخذهم الحرب على حين غرَّة.

الفروسيّة في العصر الجاهلي mawdoo3 .com "أنظر *
https://www.worldhistory.org/Medieval_Chivalry/**

محمد حامد الحاج
melhaj@gmail.com
مايو 2023

 

آراء