حول تخزين المياه في أفريقيا

 


 

 

تعتبر الوسائل الواعدة والمبتكرة المتعلقة بحسن إستغلال الموارد والإستفادة من الثروات هي المدخل الأساسي للإصلاح التنموي في أفريقيا. والمياه هي أحد أهم الموارد التي تتمتع بها القارة الافريقية؛ فهي من حيث الموقع الجغرافي محاطة بالمياه من كل جانب، حيث يحدها من الغرب المحيط الأطلسي، ومن الشمال البحر الأبيض المتوسط، ومن الشرق البحر الأحمر والمحيط الهندي، ومن الجنوب المياه المختلطة للمحيط الأطلسي والمحيط الهندي. ومع تزايد الطلب على المياه في معظم البلدان بسبب النمو السكاني والاقتصادي غدت المياه واحدة من أهم قضايا الموارد الطبيعية في القارة، لأسباب تعود إلى أنها هي واحدة من منطقتين في العالم تواجهان نقصاً خطيراً في المياه، على الرغم من وفرة موارد المياه العذبة والمياه الجوفية بها، حيث أن هناك تفاوتاً كبيراً في المياه المتوافرة والاستخدامات في داخل كل دولة، وبين دول أفريقيا المختلفة، لأن موارد المياه في القارة غير موزعة بالتساوي. فعلى سبيل المثال تعاني دول الساحل من محدودية الإمدادات من المياه العذبة، وتواجه كثير من الدول الإفريقية تعقيدات بسبب الجفاف المتكرر وعدم القدرة على إدارة مورد المياه بالطريقة المناسبة، وبسبب معوقات أخرى مثل نقص تقنية البنية التحتية والمؤسسية، وعدم القدرة على تطوير الموارد المائية عن طريق الاستثمار الداخلي أو الخارجي.
وتعد ندرة المياه ظاهرة طبيعية وبشرية المنشأ وهي تصنف إلى نوعين: ندرة اقتصادية، وندرة مادية. وتمثل الندرة الاقتصادية للمياه شكلاً من أشكال ندرة المياه بسبب نقص الاستثمارات في مجال المياه؛ بينما تشتمل أعراض الندرة الاقتصادية للمياه على نقص البنية التحتية، حيث يضطر الناس في الغالب إلى جلب المياه من الأنهار أو البحيرات بأنفسهم أو عن طرق غير متطورة من أجل استخدامها للأغراض المحلية والزراعية. وتعاني أجزاء كبيرة من أفريقيا من ظاهرة الندرة الاقتصادية للمياه، بينما تحدث الندرة المادية عندما لا يتوفر مقدار كافٍ من المياه في مكان والتوقيت والسعر المناسب .
وتتعدد في القارة الافريقية مصادر المياه العذبة حيث تتكون من الأمطار الموسمية، والتدفقات السنوية للأنهار والمياه الجوفية الناشئة من هطول الأمطار. ويتسبب التنوع والتغيرات المناخية الحديثة في القارة في إحداث تذبذب في مستوى الامطار بين وفرة أو شح فى بعض المناطق الإفريقية مثل ما يحدث في دولة تشاد مثلاً. فالجفاف والفيضانات يحدثان في تواتر شديد ومستمر منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي حتى الآن بينما يختلف توزيع الأمطار على مدار العام في دول شمال أفريقيا (حيث تهطل القليل من الأمطار الشتوية)، ومناطق مثل أثيوبيا التي لديها فصل ممطر خلال الفترة من يونيو الى سبتمبر من كل عام. وتمتلك القارة الافريقية حوالي 17 من الأنهار العذبة وأكثر من 160 بحيرة، هذا بإضافة إلى بعض التجمعات المائية الأخرى. وتتشارك في هذه المياه عدد من الدول وتتداخل بين حدودها، الأمر الذي يمكن أن يفضي إلى إحتمالية نشوب صراع بين تلك الدول في المستقبل مع تفاقم مشكلة ندرة المياه، مالم تكن هناك استثمارات كبيرة لهذه الموارد، واتفاقيات سياسية بين تلك الدول.
ووفقاً لتقرير للجمعية الأفريقية للمياه كان شعاره "المياه الجوفية" صدر في مارس2022م بمناسبة اليوم العالمي للمياه (الذي يصادف 22 مارس من كل عام) فإن حوالي 500 مليون شخص في إفريقيا يعانون من صعوبة الوصول لموارد الماء. ويهدف الاحتفال باليوم العالمي للمياه إلى رفع الوعي بأزمة المياه العالمية، بما في ذلك المياه الجوفية، وتأثيرات الأزمة على دول العالم، والطرق الواجب اتباعها لمنع الهدر والاستغلال الأمثل للموارد المائية.
وأشار تقرير للأمم المتحدة حول التنمية المائية في العالم تم إعداده بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، أن المياه الجوفية تشكل ما نسبته 99 % من المياه العذبة حول العالم. ولفت التقرير كذلك إلى أن القارة الأفريقية تعتبر من المناطق الغنية بالموارد المائية، ولكن رغم ذلك فإن أكثر من 500 مليون شخص في القارة يعانون من مشاكل تتعلق بتوفير المياه، بما في ذلك مياه الشرب. وذكر التقرير أن كلاً من هذه الدول الإفريقية: مصر وبوتسوانا والغابون وموريشيوس وتونس، تتمتع بأعلى نسبة وصول إلى المياه؛ في حين وصفت دول الصومال وتشاد والنيجر بأنها دول لديها أدنى مستوى وصول للمياه. كما أفاد التقرير أن 3 من كل 10 أشخاص في القارة لا يمكنهم الحصول حتى على مياه الشرب.
كذلك ورد في مارس2021م تقرير صادر عن صفحة غير ربحية تهتم بالنقل المائي الداخلي والأنهار عنوانها (النقل المائي الداخلي والمعارف) عن المياه الجوفية وأهميتها في أفريقيا، أن المياه الجوفية تمثل حوالي15% من إجمالي طاقة المياه المتجددة في القارة الإفريقية، التي يقدر حجمها بنحو 421 ألف مليون متر مكعب في السنة. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 75 % من السكان الأفارقة يستخدمون المياه الجوفية بحسبانه مصدراً رئيسياً لإمدادات مياه الشرب، خاصة في بلدان شمال إفريقيا، مثل ليبيا وتونس وأجزاء من الجزائر والمغرب، وكذلك في بلدان الجنوب الأفريقي مثل بوتسوانا وناميبيا وزيمبابوي. بينما تمثل المياه الجوفية جنوب إفريقيا على سبيل المثال 9 % من المياه المتوفرة بالبلاد. غير أن السودان يُعد من الدول التي يعتمد 80% من سكانه على المياه الجوفية على الرغم من وجود نهر النيل وبعض الأنهر الموسمية الأخرى به، والتي تسهم في توفير المياه فقط بنسبة 40% من المصادر النيلية مقابل 60% للمصادر المياه الجوفية. وتذكر بعض الدراسات أن عدم مقدرة السودان على إنشاء محطات مياه نيلية هي التي جعلت الاتجاه يميل أكثر نحو استهلاك أكبر للمياه الجوفية. كذلك يوصف السودان بأنه من الدول المهددة بنضوب المياه الجوفية والتي تشكل المورد الرئيسي للشرب للكثير من المناطق. وتشير بعض الدراسات إلى احتمالية نضوب الحوض النوبي الجوفي بحلول عام 2060م، إذا لم تتخذ الإجراءات اللازمة للحافظ على مخزون المياه الجوفية الذي يتم استهلاكه دون استراتيجية واضحة ولا ترشيد مخطط.
والجدير بالذكر أنه صدر في يونيو2015 م عن مركز الجزيرة للدراسات مقال للكاتب الموريتاني عبيد إميجن لخص فيه كتاب "إفريقيا المياه" الذي يتناول التطورات الحادثة في مجال إدارة الموارد المائية بإفريقيا. وورد في ذلك الكتاب أن 300 مليون إفريقي لا تصلهم المياه الصالحة للشرب، وأن الاستثمارات المالية في مجال الصرف الصحي لا تزال دون الاحتياجات اليومية للسكان، وأن 47% فقط من سكان المدن الإفريقية يستفيدون من توصيلات المياه للمنازل. ويُعد كتاب " أفريقيا والمياه"، الذي صدر باللغة الفرنسية في عام 2014م عن الجمعية الإفريقية للمياه، هو بمثابة حصيلة لمعالجة جماعية استطاع من خلالها 28 خبيرا في قطاعات المياه وتقنيات الصرف الصحي المختلفة تقاسم خبراتهم حول 14 بلدا إفريقيا، والكتاب يحتوى على جزئيين: أولهما حول إشكالية المياه في إفريقيا، والثاني يتطرق لتجارب الدول الافريقية. وأشار الكتاب إلى أن القارة الإفريقية تتزود من المياه انطلاقا من سبعة عشر نهرا كبيرا، وكثيرا ما تكون تلك الأنهار هي الحدود الطبيعية بين البلدان، ومثال على ذلك " نهر النيل " الذي يعتبر أطول أنهار العالم، ويمر نهر النيل داخل تسع دول إفريقية (بروندى – رواندا – زائير – تنزانيا – أوغندا – كينيا – أثيوبيا، وهي دول المنبع)، والسودان ومصر، دولتا المصب). كذلك يمكن أن يكون هذا المورد مصدراً لعدم الاستقرار الحدودي بين أغلب تلك الدول. وبالإضافة إلى ذلك توجد في إفريقيا 160 بحيرة من ضمنها البحيرات العظمى التي تعد أغنى مناطق إفريقيا بالماء، وهي بمثابة خزان ماء ضخم في أفريقيا. كما تتطرق الكتاب لنوعية الصراعات ونشوب النزاعات العرقية والحدودية حول الموارد الطبيعية في المنطقة. كذلك وصف الكتاب إفريقيا بأنها إحدى أكثر القارات هشاشةً أمام ظاهرة التغيرات المناخية بحيث لا يقتصر الوضع على ندرة المياه، وإنما تكمن هشاشتها في التفاوت الحاصل في القارة من ناحية نسب هطول الأمطار في كل مكان وزمان. ويرجع كاتب الدراسة السبب إلى وقوع إفريقيا في المنطقة الجافة من الكرة الأرضية، حيث تتفشى في غالب أرجائها ظاهرتا الجفاف والفيضانات معاً. لذلك ظلت الدول الافريقية تطالب العالم الغربي منذ فترة بالعدالة المناخية. وكانت آخر مرة قدم فيها ذلك الطلب في قمة التكيف المناخي في إفريقيا، الذي عقد في عام 2022م بهولندا. وبحسب تقارير إقليمية، فإن أفريقيا تعد هي أقل مناطق العالم قدرةً على التكيف مع تغير المناخ؛ وبموجب ذلك تتوالى خسارة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في كثير من البلدان الافريقية بسبب تغير المناخ. ويتزامن ذلك مع توَانِي المجتمع الدولي عن دعم التغير المناخي في افريقيا، بالاضافة إلى عوامل أخرى بالطبع تتمثل في ضعف البنية التحتية للصرف الصحي في كثير من الدول الأفريقية. فعلى سبيل المثال تعاني بلادنا (السودان) من آثار تلوث مخزون المياه الجوفية بمخلفات الصرف الصحي ومكبات النفايات. بينما استطاعت دول افريقية أخرى مثل نيجيريا التغلب على مشكلة تلوث المياه الناتج من تسريبات نشاط التعدين والصناعات النفطية. وعادة ما يواجه السكان صعوبة في معرفة التلوث في المياه الجوفية والآبار السطحية التي يستخدمونها، حيث لا يمكن رؤية مكان تخزينها، والملوثات التي تتعرض لها مثل الأسمدة والمبيدات الحشرية والنفايات التي تتسرب من مدافن النفايات وأنظمة الصرف الصحي، تشق طريقها إلى طبقة المياه الجوفية وتلوثها.
كذلك نشرت مجموعة من الجهات البحثية المتخصصة التابعة لهيئة الأمم المتحدة مثل"المعهد الكندي للبيئة المائية" تقييماً جديداً لقياس الأمن المائي في دول إفريقيا. واستخدم ذلك التقييم عشرة مؤشرات لقياس الأمن المائي في 54 دولة في إفريقيا. حيث أن مفهوم الأمم المتحدة للأمن المائي يشير بصورة عامة إلى احتياجات وشروط عديدة تتعلق بالأمن المائي منها مياه للشرب، والنشاط الاقتصادي، والأنظمة البيئية، بالإضافة إلى مقاومة المخاطر، والحوكمة، والتعاون عبر الحدود، والتمويل، والاستقرار السياسي فقد ذكر ذلك المعهد... " كما وتنصب مفاهيم الأمن المائي في قياس قدرة السكان على حصولهم المستدام على الكميات الكافية من المياه الجيدة المقبولة بحيث تضمن سبل العيش ورفاهية الإنسان والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، ومن أجل الحفاظ على النظم البيئية في مناخ يسوده السلام والاستقرار السياسي". والجدير بالذكر أن ذلك التقييم أظهر بشكل عام، أن مصر وبوتسوانا والجابون وموريشيوس وتونس هي الدول الخمس الأولى في إفريقيا من حيث الأمن المائي. ويشير (المؤشر الخامس الذي هو " كفاءة الاستخدام") إلى أن كفاءة استخدام المياه هي الأدنى في شمال إفريقيا، والأعلى في وسط إفريقيا؛ بينما يشير (المؤشر السادس الذي هو "البنية التحتية") أن البنية التحتية للمياه هي الأفضل في منطقة جنوب إفريقيا الفرعية، والأسوأ في شرق إفريقيا. أما المؤشر (الثامن الذي هو "إدارة المياه") فيبدو أنه هو الأكثر تقدماً في المناطق الفرعية لشمال وجنوب إفريقيا، في حين أن وسط إفريقيا هي الأقل تقدما؛ أما فيما يتعلق بـ (المؤشر العاشر الذي هو "الاعتماد والتنوع") الذي يشير إلى الاعتماد على مصدر المياه الآتية من الدول المجاورة، وبتنوع الموارد المائية، فتبرز فيه مصر كأكثر دول إفريقيا اعتماداً على المياه من دول مجاورة. والملاحظ أن ذلك التقرير لم يشر قط لدولة السودان في أي مؤشر من المؤشرات العشرة.
تعتبر بعض الدول الافريقية حق الحصول على المياه حقا دستوريا أصيلاً. فدستور تونس مثلاً ينص على أن "الحق في الماء مضمون. والمحافظة على الماء وترشيد استغلاله واجب على الدولة والمجتمع". كما ينص قانون المغرب على أن الماء يعتبر ملكاً مشتركاً يقتسمه كل أفراد المجتمع، بينما ينص دستور جنوب أفريقيا على أن "الرعاية الصحية والغذاء والمياه والتأمين الاجتماعي" هي حق دستوري. ويجدر بكافة دول القارة السير على ذات النهج في اعتبار حق الحصول على المياه حقا دستوريا أصيلاً. ويظل الماء هو المورد الحيوي لمستقبل إفريقيا، ومن أهم مقتضيات التنمية بأبعادها المعاصرة، سواءً الاقتصادية، الاجتماعية، البيئية أو حتى السياسية/ السيادية، حيث أخذ هذا المورد الحيوي يجذب هجرة متنوعة سواءً أكانت هجرة شرعية أم غير شرعية للسكن بالقرب من مصادر المياه. وقد تكون هذه الهجرة هجرةً بين دول القارة الافريقية نفسها أو حتى من قارات أخرى تعاني من شح مصادر المياه، بالإضافة لعوامل إضافية أخرى. وعادة ما توصف الهجرات غير الشرعية تحديداً بأنها تتسبب في انتقاص حقوق المواطن الحاليين والأجيال القادمة في المياه؛ هذا بإضافة إلى الإنتهاكات لقوانيين إستخدام المياه والحفاظ على البيئة. ومن جانب آخر ينظر الكثير من المحللين السياسيين للصراع الحديث في أفريقيا بأنه تكالب على موردالمياه سواءً أكان بين الدول الافريقية أو من بعض القوى الدولية، ويوصف أحياناً بأنه الاستعمار السياسي الجديد المبني على الإستفادة من خيرات القارة الافريقية المتعددة، خاصة مورد المياه.
نخلص إلى أن الأزمات المناخية المتكررة قد فرضت على القارة الأفريقية مسايرة الآثار المناخية والانتباه لقضايا المياه بشكل خاص، وانتهاج سياسات إقليمية ووطنية في إطار تشاركي بين دول القارة تماشياً مع النسق العام الرؤية الإفريقية للمياه 2063م. ومن جانب آخر ينبغي على تلك الدول الاهتمام بزيادة كفاءة المياه عبر إصلاح نظم توزيع المياه في القطاع الزراعي، وزراعة المحاصيل التي تتطلب قدراً أقل من المياه، والاستثمار في التقنيات الحديثة لتحقيق الإستدامة خاصة في الدول التي ترتبط عندها وفورات المياه بالطاقة.
لذلك ينبغي على الدول الافريقية أن تحول نهجها التنموي نحو المياه، وأن تغدو تلك مسألةً سيادية متعلقة بتحقيق مطالب الأمن القومي. ويظل تحقيق السلم والأمن في مختلف المناطق الإفريقية قضية جوهرية للانطلاق نحو الاستفادة من الثروات، وإن ما تزخر به دول إفريقيا الوسطى والجنوبية يمثل مخزونا مائيا لمسايرة التطورات والتغيرات المناخية فيما يخص المياه، ويفضي التحام تلك الموارد والوسائل إلى تعزيز الدبلوماسية المائية للسلام بما يتفق مع تطلعات التنمية ومبادئ الاتحاد الإفريقي حول تضامن دول القارة.
ومن جانب آخر يتطلب الإصلاح في قطاع المياه في أفريقيا معالجة نقص المعلومات في هذا القطاع الحيوي، بتوفير بيانات وافية سواءً عن طريق استبيانات ميدانية أو بحوث علمية تمكن من بناء رؤية كلية وشاملة حول السياسات المائية على المستوى القاري والوطني لكل دولة، وعبر تعزيز دور المؤسسات والهيئات بوسائل وأدبيات علم الإدارة لتعزيز الكفاءات والقدرات، وتعزيز قيم المواطنة والشفافية في تدبير الشأن العام.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء