خواطر سودانية -17- … بقلم: أحمد جبريل علي مرعي

 


 

 


Gibriel47@hotmail.com
 
أيها المهمشون أتحدوا!!!
 
فرح المهشمون وزها أملهم وتصاعدت طموحاتهم في جميع أرجاء السودان بانتصار القائد قرنق على حكومة المندكورو (الجلابة) عندما تم توقيع اتفاقية الخزي الشامل.
 
اتسعت بسمات المهمشين. فقد كانت آمالهم عريضة بعرض سودان المليون ميل مربع. وسادت الأفراح في الجنوب والشرق والغرب والشمال. وحلم المهمشون بغد زاهر ومشرق وعهد جديد في (السودان الجديد).
 
وحق للمهمشين أن يفرحوا وتغمرهم السعادة بعد عناء عقود زمنية طويلة عاشوا فيها كل أشكال اليأس والإحباط. فقد سيطرت مجموعة الوسط الظالم الحاكمة منذ الاستقلال على كل مقاليد الأمور وهمشت كل جهات السودان الأربعة. واحتكرت كراسي الحكم القبائل الثلاثة، التي أبرزتها لنا مجموعة الإنقاذيين عندما كتبت (الكتاب الأسود) في أولى أيام حكومة الإنقاذ. وأصابت مجموعة الإنقاذيين السودان في الأيام الأخيرة بداء عضال لم تسبقها إليه أي حكومة من حكومات السودان البائدة، وهو داء العنصرية البغيض الذي أطل بوجهه القبيح.
 
تناقل المهمشون النبأ السار، نبأ  لقاء القائد قرنق بهم في الساحة الخضراء.  فماج السودان  بحركة المهمشين القادمين إلى العاصمة لملاقاة حبيبهم (قرنق). وكان لقاء مذهلا حضرته جماهير غفيرة بلغت الملايين. وكان إشارة واضحة لمن ( كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) يتعظ ويعتبر.
 
والحق يقال فقد كان عامة السودانيين يكرهون القائد قرنق أيام نضاله الأولى لعدم وضوح مبادئه إلا عند قلة من المثقفين الذين لديهم صلات بثورة المهمشين في جنوب السودان. فقد استخدم القائد قرنق تكتيكات كثيرة خلال مسيرة نضاله (الماراثونية) لتحقيق أهدافه.
 
 تراوحت تكتيكات البطل قرنق من اليسار الشيوعي الأحمر إلى مبادئ ضبابية لم يستطع المهمشون معرفة كنهها. ثم تبلورت رؤاه الوحدوية بسودان جديد بشكل واضح جدا بعد الانتصار على حكومة (الجلابة) – حسب تسمية المهمشين الجنوبيين - وتوقيع الاتفاقية معها.
 
فقام البطل قرنق بتوقيع اتفاقية السلام الشامل بكل الفخر والانتصار، ووقع مؤتمرنا الوطني على اتفاقية الخزي الشامل بكل الخزي والعار.
 
وقع المؤتمر الوطني على الاتفاقية بعدما أعيته الحيل والألاعيب الشيطانية التي علمه إياها كبيره المخذول. و بعدما خارت قواه من مطاردة الشباب في الأسواق ودور العلم والأزقة ليزج بهم في حرب مشروعه الحضاري البائس الذي تنصل عنه أخيرا ولم يعد يذكره بسبب إصابته (بالزهايمر) الذي أكتفه مبكرا.  وبعدما أضاع خيرة الشباب في حرب لا معنى لها!!!
 
 بعد توقيع الاتفاقية تأكد للمهمشين صدق نوايا ذلك القائد السوداني البطل. وأيقنوا بأن البطل قرنق كان يقاتل من أجلهم ومن أجل (سودان جديد) يتساوى فيه الكل ولا يتميز أحد على أحد في أساسيات المواطنة من حيث اللون أو الشكل أو اللسان أو الدين، ولا تحتكر قبيلة (الجلابة) السودان ، حسب تعبيره.
 
 ولكن وللأسف فإن نحس السودان، هذا البلد المنكوب، لازمه ولم تكتمل فرحة المهمشين بالانتصار وبزوغ فجر جديد لسودان جديد. ومات البطل.
 
ومع موت البطل ماتت كل الأحلام الوردية والأماني والطموحات المشروعة لكل المهمشين. وكان فقدا عظيما رغم الأحداث المؤسفة والسخيفة التي قامت بها مجموعات غبية من غوغاء الجنوبيين داخل العاصمة السودانية عقب موت القائد البطل عندما صدمتها وفاته بتلك الصورة المشبوهة.
 
لم تكن  تلك المجموعات الجنوبية الغبية تعلم بأن البطل كان في قلب كل سوداني مهمش.  وأن المصاب الجلل كان مصاب كل مهمش في أرجاء السودان. ونتيجة لأفعالها الانتقامية داخل العاصمة السودانية حصدت جزاء ما فعلته بالأبرياء من تقتيل وتدمير وخراب وأفعال بشعة.
 
ودقت تلك المجموعات الجنوبية الغبية بأفعالها تلك إسفينا آخر في نعش الثقة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة بين الجنوبيين وبقية السودانيين وعادت بنا إلى فظائع توريت عام 1953 التي نسفت جسور الثقة منذ ذاك الوقت بين الجنوبيين والسودانيين عموما.
 
بعد وفاة البطل قرنق أدرك المهمشون لأول مرة أن أملهم الكبير قد تلاشى. وأن ثمرة النضال خلال عقود زمنية قد فسدت. واكتنف المهمشين يأس وإحباط من جديد.  وبدأوا يبحثون عن منقذ ومخلص جديد وعن أمل آخر عسى ألا يكون سرابا.
 
تعلق المهمشون بالقائد الجنوبي الجديد (سلفا) عسى أن يكون (كالسلفا) التي تداوي جراحهم. ولكن وللأسف كان السلفا (سلفا) من نوع آخر. سلفا تفعل نقيض السلفا التي عرفوها. فهذه السلفا تنكأ الجراح بدل أن تعالجها!!!!
 
فقد أفرغ (السلفا) ثورة المهمشين من مضمونها ومحتواها. ويبدو أيضا أنه ألم بأبجديات قواعد اللعبة السياسية وتعلم من درس موت البطل. فآثر ألا ينساق في مسار البطل خشية أن يلقى المصير ذاته. وهذه لعبة حذقتها مجموعات دولية على رأسها اليهود في تطويع القادة الجبناء. وهي أشبه ما تكون بلعبة (القرداتي) في مصر أيام الملك فاروق.
 
فقد كان يؤتى بالقرد من مجاهل أفريقيا. ألا رحم الله أبا الطيب المتنبئ حين قال:
ومثلك يؤتى به من بلاد بعيدة             ليضحك ربات الخدور البواكيا
 
 يقوم القرداتي بتعليم القرد ألاعيب وحركات معينة في مصر  تضحك الجمهور ويتكسب بها  القرداتي من الجمهور.
 
لكن تعليم القرد الجديد ليس بالأمر الهين ويتطلب ترغيبا وترهيبا. يقوم القرداتي بذبح كلب أمام القرد الجديد مما يثير في القرد الرعب. ثم يعاود تعليم القرد حركات معينة، وعندما لا يطاوعه يقوم بذبح كلب آخر أمام القرد الذي يصيبه الهلع والذعر. وعند الحركة الثالثة يبدأ القرد في محاكاة القرداتي في كل حركاته وسكناته وما يطلب منه تأديته خشية أن تجد السكين طريقها إلى نحره.
 
هذه اللعبة الفظيعة (لعبة العصا والجزرة أو الترغيب والترهيب إن شئت)  تعلمها اليهود من قديم الزمان. فهم يسايرون القائد بما يريد. فإن كان ممن يرغبون ويطمحون لتحقيق أشياء معينة تم تحقيقها له شريطة أن يكون طوع بنانهم، وإلا فيصبح التحول إلى البند الثاني، بند السكين الحادة، أمرا حتميا.
 
طبقت هذه السياسة على كثير من قادة الأمة العربية الحاليين، وممن قضوا نحبهم، وذبح القادة الذين قبلهم أمام أعينهم فصاروا يمشون (على العجين وما يلخبطوه). وأصابهم طرش شديد ولم يعد بإمكانهم سماع صياح الجماهير ومطالباتها!!!
 
أجهض (السلفا) أحلام الجماهير المهمشة في رؤية سودان جديد. وعادت الجماهير المهمشة في السودان الشمالي إلى المربع الأول. وسيطر (الجلابة) – كما يقول الجنوبيون –  على مقاليد السلطة ثانية. وأصبح على المهمشين أن يبحثوا عن قائد جديد عسى أن يحول سرابهم إلى حقيقة.
 
ونعم الجنوبيون بثمار كفاح البطل قرنق وحدهم. وقطفوا ثمار اتفاقية السلام الشامل.  وتحقق ما كانوا يصبون إليه من حرية وعدل ومساواة في كل نواحي الحياة. وأصاب بعض قصيري النظر من أشباه المتعلمين الجنوبيين داء الأنانية وراموا الانفصال فقط ونسوا أن البطل قرنق كان يكافح من أجل السودان قاطبة وخانوا مبادئه العظيمة.
 
وبدأت جموع المهمشين ثانية تبحث عن قارب نجاة جديد عله يصل بها إلى بر الأمان. فتعلقت قلوب بعض جماهير المهمشين بالقائد خليل إبراهيم، الذي تمكن من زيارة الخرطوم في وضح النهار وخرج منها كالشعرة من العجين، فانضمت إليه في نضاله عساه يحقق حلمها من أجل (العدل والمساواة) بعدما خاب أملها في (السلفا).
 
وابتدا المشوار من جديد، وعساه أن يتوقف عند مجموعة (الغرابة)  ولا يثير بركان الشرق ويستنهض (أدروب) ذلك المقاتل الشرس، بعدما كررت حكومة المؤتمر الوطني المنتخبة نفس الأخطاء المؤدية لحمل السلاح بإقصائها وحرمان مجموعات ( الغرابة) و (أدروب) عن سدة الحكم.
 
 
ولنقد الذات بقية إن شاء الله......
 

 

آراء