كرة قدم سياسية

 


 

 

الفوز بنتيجة المباراة في الملعب لا يتحقق بخطة اللعب التي في رأس المدرب، ولكنه يتحقق بأقدام اللاعبين على الأرض.

والمدرب الذكي هو الذي يجيد توظيف مهارات وقدرات وإمكانات لاعبيه لتنفيذ خطته المصممة بناء على مهاراتهم وقدراتهم.

وهو لن ينجح في ذلك ما لم يكن على معرفة كافية ودراية تامة بلاعبيه وقدراتهم وإمكاناتهم، وما يتمتع به كل واحد منهم من مهارات، والخانة التي تلائم قدراته هذه.

إذن.

خطآن يقع فيهما المدرب إذا لم يتمتع بالذكاء الكافي:

- أن يظن المدرب بأن الفوز متحقق حتماً ومسبقاً في رأسه، وأن خطته هي الفوز وضمانة الفوز.

- وأن يكون على جهل بإمكانات وقدرات لاعبيه فيضع لهم خططاً لا تتناسب مع قدراتهم، ويصر على تطبيقها مع ذلك، لإيمانه الشخصي بها.

ولأن كرة القدم لعبة جماعية، على المدرب الذكي أن يشيع روح الجماعة بين لاعبيه، وأن يتمتع بقدر كبير من الحب والإخلاص للفريق. وعلى قدر مساوٍ من التواضع ليثق بأفراد الفريق ويؤمن بقدراتهم ليكسب ثقتهم، ليبذلوا أقصى جهدهم ويعطوه أفضل ما لديهم.


(2)

ألا تجد أن هذه هي مقومات ومؤهلات نجاح القائد السياسي الذي يطمح أن يقود شعبه ويضع بصمة متميزة من النجاح في مسيرته السياسية يسجلها في صفحاته التاريخ، وتحفظها ذاكرة وطنه ؟.

وإذن، هل تجد بين هؤلاء الساسة المتزاحمون على مقعد الزعامة اليوم من يتمتع منهم ولو بالقدر اليسير من هذه الاستعدادات والقدرات والمؤهلات، لقيادة الوطن في هذه اللحظة المفصلية الحرجة من تاريخه ؟.

إذا كانت الأمور تقاس بنتائجها فإن النتيجة كما هو واضح: لم ينجح أحد !.

نعم لا أحد.

لا بين من هم في السلطة بكل مكوناتها، أو من هم في المعارضة، بل ولا بين من هم في دكة الاحتياط (رجل في المعرضة وأخرى في السلطة)، ينتظرون دورهم ليعتلوا مقعدها.

- ولاءهم لأنفسهم وليس للفريق. وما الفريق/ الوطن سوى مجرد وسيلة.

- هدفهم ليس مجد الفريق، وإنما تحقيق أمجادهم الذاتية، ولو على أشلاء كرامة وكبرياء الوطن/ الشعب.

- إنهم أجهل الناس بقيمة وإمكانيات الفريق/ الوطن الذي يتهافتون على زعامته وقيادته.

- وبالتالي، وبسبب جهلهم بلاعبي/ مواطني فريقهم، تجدهم يخفقون في وضع اللاعب/ المواطن المثالي في الخانة/ موقع المسؤولية المناسب، ويعتمدون في ذلك على معايير القرابة/ الصداقة/ الاستلطاف/ المصلحة الخاصة. أي يعتمدون مبدأ شخصنة السلطة.

فلا غرو أن يخسر فريقهم كل جولاته التنافسية.

يحدث هذا إذا كان للمدرب/ المسؤول في الأصل خطة ما في رأسه للعب. ولك أن تتصور الحال الكارثية إذا ما خلا رأسه من أي خطة/ برنامج سياسي !.

ولو أنهم كانوا – رغم ضعف نفوسهم وقصورهم الأخلاقي – ،على شيء من المعرفة والعلم والدراية الاحترافية بقواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، مهما قلَّ قدرها. وكانوا على قدرٍ من الذكاء بحيث يبرعوا فيها ويرسخوا زعامتهم. لكان هذا كافٍ ليخرجوا بنتائج أقل من الطموح المأمول، وأقل كارثية. أما أن يجمع المدرب بين الجهل وضعف الوازع الأخلاقي، فأمر يدعو لليأس والقنوط.


(3)

دعنا نزيح جانباً مكونات السلطة الانتقالية (لحم الراس) ما بين مكون عسكري، وجهاز تنفيذي يفترض أنه يتكون من تكنوقراط ،وحاضنة سياسية، على أطرافها حركات مسلحة. لكل واحدة من هذه (السَلَطَة) خلفياتها السياسية والفكرية، ولكل واحدة منها رؤيتها الخاصة لما تكون عليه هوية الدولة، ولكل واحدة منها أهدافها التي تختلف على أهداف الآخرين. مما يجعل منها فريق غير متجانس، بل فريق متشاكس، يشد الصراع على السلطة خيوط علاقات أطرافها ببعضهم البعض.

دع كل أولئك جانباً، وتأمل حال فريق واحد من هذه المكونات، هو فريق الجهاز التنفيذي الذي يشرف على تدريبه خبير التدريب الأممي الدكتور عبد الله حمدوك، والذي تم الاستعانة بخبرته ليس لأنه (أشطر) من المدربين المحليين، ولا الأكثر منهم علماً وخبرة، ولكن لأنه مدرب أممي يجيء من الخارج، غير منخرط في الاصطفافات والانتماءات والصراعات المحلية. وبالتالي، ربما يكون أكثر حيادية في اختيار اللاعبين المحليين لمنتخب الجهاز التنفيذي بناء على معايير الأهلية والكفاءة. واللعب وفق أسلوب وخطة/ استراتيجية واضحة، تنظم حركة اللاعبين ووظائف الخانات التي يلعبون فيها. يساعده في ذلك عدد غير معلوم من الخبراء والاستشاريين. الذين يتم استبدالهم بين فترة وأخرى، وإضافة عدد لهم بين حين وآخر.

فهل فعل الخبير الأممي هذا المعلوم من علم السياسة بالضرورة ؟.

للأسف فعل عكس ذلك تماماً مما يُعد هرطقة سياسية، وخروجاً على سننها.

- رغم وجود اللاعب المحلي الذي يتمتع بالخبرة بواقع ملعبه/ بلده، ورغم تمتعه بالكفاءة/ الحرفنة بأساليب اللعب في ملعبه، عمد للتعاقد مع لاعبين من الخارج لا علاقة لهم بالفريق الذي الذي يرتدون فنلته إلا بالسماع.

- وبين اللاعبين المحليين اختار مجموعة من اللاعبين (لحم راس) ، رغم علمه بأن الفترة الانتقالية في مشوار الفريق الطويل لا تحتمل قطعاً ترف "التجريب" في اختيار اللاعبين.

- فقام باختيار لاعبين تختلف خلفياتهم وأجندتهم وأهدافهم السياسية المختلفة، بل والمتعاكسة المتناقضة أيضاً. وكل لاعب يلعب وفق خطته الخاصة، ويوظف خانته في الملعب لصالح رؤيته وأهدافه التي لا تنسجم مع خطة المدرب والفريق وجمهوره.


(4)

وإلا فما معنى أن تضم تشكيلة الفريق، على سبيل المثال:

- لاعب مثل إبراهيم جبريل بخلفيته الإسلاموية القحة، وقلبه مع من أطاحت بهم الثورة، وأجندته الإسلاموية هي أجندة المؤتمر الوطني. مع لاعب مثل الخبير محمد الأمين التوم وزير التربية والتعليم، أو مثل الدكتور عمر القراي مدير عام المركز القومي للمناهج والبحث التربوي؟!. في تشكيلة تضمهم معاً !. النتيجة كما يمكنك أن تتوقع أن يتنازع أفراد الفريق الكرة، تكون الكرة مع القراي فيهجم عليه زميله جبريل لينتزعها منه، بدل أن يتبادلونها تمريرا بينهما. وما هو أسوأ من ذلك أن يشتكي القراي محتجاً لمدرب الفريق حمدوك، فينتصر المدرب لجبريل، ويخرج التوم والقراي مغبونان من الملعب، ويستأنف الفريق التنفيذي  اللعب بتسعة لاعبين والمدرب يتابع مجريات المباراة بلامبالاة !.

لا يقتصر الأمر على قطاع التعليم، وإنما يشمل ذلك كل القطاعات. مثل الاقتصاد على سبيل المثال، الذي عجز الجميع عن معرفة من اللاعب الذي يشغل خانته في الفريق التنفيذي، وما هي الخطة الموضوعة له. ويبدو إجمالاً أن كل خطوط الفريق تعمل كجزر منفصلة عن بعضها البعض، ولكل جزيرة مرجعيتها الخاصة وأهدافها الخاصة وخطة لعبها الخاصة.

ليس ذلك وحسب، بل يشهد الفريق تبديلاً للاعبين بطريقة غير مفهومة، ودون معرفة لماذا تم اختيار اللاعب  ولماذا تم استبداله بلاعب آخر؟. وقد انتبه لهذه الظاهرة الغريبة في تسيير دواليب العمل بالوظائف القيادية في الدولة في سلك الخدمة المدنية الدكتور صديق أمبده، بأنه ومنذ تكوين الحكومة الانتقالية الجديدة قبل نحو أربعة أشهر تم إعفاء عدد كبير من وكلاء الوزارات لأسباب مجهولة ما يقارب عددهم العشرة في بعض التقديرات، كما تم أيضاً إعفاء عدد من مديري المراكز والمجالس والوحدات الحكومية، مع أنهم قلب دينمو جهاز الدولة. وتم بالمقابل استبدالهم جميعاً بأشخاص من اختيار الوزراء الجدد (ممثلي الأحزاب و الحركات المُسلحة المشاركة في الحكومة). وبالطبع تم الاختيار بمعايير لا علاقة لها بالكفاءة والخبرة والأهلية، وإنما تم ذلك في إطار الترضيات والمحاصصات. وليصدق على العملية برمتها ما وصفه بها عثمان محمد حسن بالقول في مقال له بأن: "أحزاب المحاصصات تذبح الكفاءات استبدالا للتمكين بتمكين!"(1).


(5)

ما تستطيع أن تخرج به من انطباع وأنت تشاهد من مدرجات الجمهور، هو أن هذا الفريق يفتقر إلى الانسجام، وأنه يلعب بلا خطة واضحة تنسق جهود لاعبيه، وأن لكل لاعب في خانته خطته الخاصة التي لا علاقة لها بالخطوط الأخرى للفريق.

لا ينبغي أن نظلم الدكتور حمدوك، فقد تكون له خطة للعب بحكم خبرته الأممية، فالرجل ترك بصمات واضحة في تجارب تنموية أفريقية في غير السودان،. إلا أنه فيما يبدو لم يشرح للاعبيه خطته. فالمدربون فيما نعلم جميعاً يفعلون ذلك في معسكرات مغلقة على المدرب وفريقه المساعد واللاعبين. يشرح فيها المدرب خطته للاعبيه على الورق أو البورد، ويقوم اللاعبون بتدريبات تطبيقية، تترجم الخطة بجمل تكتيكية متقنة على الملعب.

إلا أن الخطأ  القاتل الذي وقع فيه "الكوتش" فيما يتداول البعض، أن الدكتور فيما يبدو كان يكتفي بطرح خطته التدريبية على مساعديه ومعاونيه/ مستشاريه، في اجتماعات/ معسكرات مغلقة تقتصر عليهم ووحدهم ولا يشارك اللاعبون فيها.

وإذن، إذا سألت عن أسباب فشل هذا الفريق ستجد أن الأسباب كلها ترتدت إلى المدرب. فهو احتفظ بخطة اللعب في رأسه، وحتى حين أخرجها من رأسه فإنه لم يضعها حيث ينبغي أن تكون للاعبيه.

ثم أنه أختار لاعبيه كيفما أتفق، بمن حضر،. فكان بين يديه يفتقر إلى الانسجام (لحم راس). ولكل لاعب أو مجموعة لاعبين خططهم الخاصة وأهدافهم التي لا تتفق مع الباقين، وأنه لم يراعي في اختيارهم مبدأ الكفاءة والخبرة والأهلية وإنما تم ذلك بناء على اعتبارات شخصية أو تم في إطار الترضيات الاجتماعية والسياسية. وإذا كان فريق بهذه المواصفات أمامه تحدي مواجهة منافس قوي مثل فريق العسكر، فنتيجة المباراة محسومة قبل أن يطلق الحكم صافرة البداية.


(6)

صحيح أن نقطة قوة الفريق التنفيذي كانت في جماهيره، إلا أن من يدير الفريق لم يبدِ من الحماس للفريق ما يصيب جماهيره بعدوى الحماس والتشجيع، بل على العكس أبدى لامبالاة بفؤيقه وعدم احترام لجماهيره ما جعلها لا تعبأ بمصير الفريق.

صحيح إن هذه الجماهير لن تنتقل بولائها للفريق المنافس التقليدي. فهذا ليس من شيمها. اللاعب المحترف مثل السياسي المحترف يمكنه أن يغيَّر لون فنلته وينقل ولاءه للفريق الخصم المنافس. إما مغاضباً مثلما فعل الدحيش بانتقاله من الهلال للمريخ قديماً، وأبو العائلة قبله، أو مثلما البرنس هيثم مصطفى حديثاً. وإما طمعاً مثلما فعل أحمد سليمان المحامي بانتقاله من الحزب الشيوعي إلى الجبهة القومية الإسلامية. أما المشجعين فلا يفعلون ذلك، وأقصى ما يفعله المشجع حين يضعف ولاءه لفريقه، أو يزهد في تشجيعه يأساً وقنوطاً من المدرب واللاعبين فإنه يكتفي باللامبالاة والحيادية.

وهذا ما اعترى لجان المقاومة وقوى الثورة الحية في موقفها من فريقها التنفيذي، لأنه لم يعد يلبي طموحاتها، وبالتالي لم يعد يمثلها.

فهل يتدارك الكوتش حمدوك أمر فريقه، أم "يعمل رايح" ؟؟!.


هوامش ومصادر

(1) عثمان محمد حسن، مقال بالعنوان أعلاه، موقع صحيفة سودانايل الإلكتروني، بتاريخ 28 يوليو 2021.



izzeddin9@gmail.com

 

آراء