كيف أعادت الدولة المهدية إنتاج التفاوت الطبقي؟ ( 1/ 2)

 


 

 

بقلم : تاج السر عثمان
نتابع في هذه الدراسة بمناسبة الذكرى 139 لتحرير الخرطوم وانتصار الثورة المهدية، كيف أعادت الدولة المهدية إنتاج التفاوت الطبقي، فقد أشرنا سابقا الي أن فردريك انجلز في تحليله للثورة المهدية كان دقيقا عندما أشار إلى أنه بنجاح تلك االثورات التي انطلقت من اسباب دينية ضد القهروالظلم والفساد ومنها الثورة المهدية في السودان ووصولها للسلطة تترك الشروط الاقتصادية كما هي لاتغيير البتة، فهذا انطبق بشكل كبير على الثورة المهدية والتي أبقى نظامها الاقتصادي – الاجتماعي على التفاوت الطبقي ، وأبقي على الملكية الفردية. الخ، كما سنتابع في هذه الدراسة :
التركيب الطبقي للمجتمع في الدولة المهدية. :
عرفت فترة المهدية ( 1885 – 1889) - شأنها في ذلك شأن تكوينات ما قبل الرأسمالية السابقة التي درسناها ( النوبة ، الفونج ، الفور ، الحكم التركي – المصري ) – التفاوت الطبقي أو التفاوت في توزيع الثروة أو التباين الاجتماعي،وهذا التباين ناشئ من طبيعة المجتمع الزراعي الرعوى التجاري نفسه الذي عرف ظهور الفئات الغنية من الرأسمالية التجارية، وكما أشرنا في دراسات سابقة أن التشكيلة الاجتماعية للمهدية – كتشكيلة سابقة للرأسمالية – لاينطبق عليها بشكل دقيق الحديث عن طبقات اجتماعية بالمفهوم الذي تحدث عنه ماركس ولينين وبوخارين ولوكاتش. الخ ، ذلك المفهوم الذي يربط الطبقة الاجتماعية بالدور في الانتاج والوعي الطبقي ، كما أضاف علماء الاجتماع غير الماركسيين معايير أخرى كمّلت وعمّقت ذلك المفهوم الماركسي الذي كان من المنجزات الهامة في علم الاجتماع .
وهذا المفهوم ظهر وتبلور بعد الثورة الصناعية في أوربا وبعد انتصار نمط الإنتاج الرأسمالي ، وبالتالى يبدو لى أنه لايجوز الحديث عن طبقات اجتماعية بمعنى ( طبقة البروليتاريا أو البورجوازية أو البورجوازية الصغيرة .. الخ ) في فترة المهدية كتشيكلة سابقة للرأسمالية ، رغم أن فترة المهدية شهدت وعرفت بذور نمط الانتاج الرأسمالي من اقتصاد السلعة –النقد، وبروز الشكل الجنيني للعمل المأجور . وترجع جذور اقتصاد السلعة – النقد الى عهد مملكة الفونج والذي تطور بشكل أوسع في فترة الحكم التركي – المصري وخاصة بعد ادخال المحاصيل النقدية ( القطن ، النيلة ، القصب ، السكر ، الصمغ ،. الخ ) ، ونتج عن ذلك ارتباط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي أو بالتجارة العالمية ، وفوق هذا الواقع ورغم عزلة المهدية بشكل جزئي عن السوق العالمي ومحاصرتها تجاريا على النطاق العالمى، الا أن الرأسمالية التجارية واصلت نموها وازدهارها واستمرت التجارة مع العالم الخارجي وان كانت بشكل أقل من فترة الحكم التركي، وبالتالي تغلبت المصالح المادية والتجارة على الحواجز الايديولوجية
( للمزيد من التفاصيل، راجع: تاج السر عثمان الحاج، دراسات في التاريخ الاجتماعى للمهدية،مركز عبد الكريم ميرغني 2010).
ولكن يبدو لى أنه يجوز الحديث عن تفاوت اجتماعي أو مراتب اجتماعية أو تفاوت طبقي في فترة المهدية ، ويمكن تحديد التركيب الطبقي للمجتمع في المهدية على النحو التالى : -
1 - الحطام والامراء والمشايخ
2 – التجار .
3 – الفئات الوسطى ( الكتبة ، القضاء ، الفقهاء.. ).
4 – الحرفيون .
5 – الطبقة العاملة.
6 – المزارعون والرعاة.
7 – الجيش.
8 – الرقيق.
أولا : الحكام والامراء والمشايخ :
تشمل هذه الفئة الحكام : الخليفة وحكام الأقاليم ( العمال ) وكبار موظفي الدولة من عسكريين ومدنيين وأمراء ، كما تشمل زعماء ومشايخ القبائل ، اضافة للفئات العليا والمميزة من زعماء وكبار قبيلة التعايشة والخلفاء والملازمين والجهادية، وقد جمع هؤلاء بين السلطة والثروة من مواقعهم ومناصبهم تلك ومن حيازتهم للاراضي التي تمت غنيمتها ، وعلى سبيل المثال : منحت اطيان ولد الفحل بجزيرة الحلفايا للأمير عبدالله صابون وهناك عدة سواقي ومساحات شاسعة من أراضي بيت المال أُعطيت للانصار بمنطقة دنقلا ودار الشايقية.
مثال آخر: طين أحمد باشا بالكاملين التي صادرها المهدى بحكم أنه من املاك الترك واعطاها الى الطيب نور الدائم.
ويبدو أن العطاء بهذا الوجه كان كثيرا وقد تضايق ابراهيم عدلان أمين بيت المال من كثرة المستفيدين منه فقيده في حدود من يحملون أوامر مكتوبة بها من المهدى أو الخليفة .. كما نسمع عن عزل واعتاحمد سليمان ( اول امين لبيت المال ) بتهمة الثراء ولذلك تم تفتيش منزله ووجد به – حسب رواية اهرولدر – خمسة الاف من الذهب الصافي . ويمكن أن نلاحظ التفاوت الكبير في المرتبات الشهرية فقد كان على سبيل المثال مرتب أمين بيت المال 50 ريالا ، ومرتب قاضي الاسلام 40 ريالا ، بينما كان مرتب الجندى الانصارى يساوى خمسة قروش – نصف ريال – ( د.محمد سعيد القدال ، السياسة الاقتصادية للدولة المهدية، دار جامعة الخرطوم للنشر 1986)، ص 175 ) . .
أ ما مرتبات الملازمين والجهادية فكانت احسن حالا بل أن الاهتمام بهم كان يتير احيانا حفيظة الفئات الاجتماعية الأخرى .. فقد بلغ ما صرف على الملازمين خلال عام واحد حوالى خمسة وستون الف ريال واربعون اردب ذرة .. ولكن هذه الكمية انخفضت كثيرا مع تدهور أوضاع الدولة المهدية حتي بلغت مثلا عام 1898 مجرد الف وستمائة اردب ( قدال : 175 – 176 ) .
ثانيا : التجار:
اتسعت الرأسمالية التجارية في فترة المهدية ، وبالتالى زاد أفراد هذه الفئة، وهذه الفئة التي ازداد ثراؤها لها علائق وارتباطات بالحكام، بينما تقلص نفوذ التجار الأجانب والتجار المعارضين للمهدية، وقد أصبح كثيرا من البقارة تجارا أثرياء ومن أصحاب الريالات "اللامعة" كما تشير وثائق المهدية كما أشارت الوثائق ايضا عن أهل الثروة والاقتدار .
وظهر ذلك الثراء في وجود ثروات طائلة لدى بعض التجار فمثلا بلغت تبرعات تجار بربر في عام واحد خمسة وسبعون ألف ريال وحمسة عشر ألف اردب ذرة ، ودفع أحد التجار غرامة بلغت ستة الآف ريال وآخر خمسة الاف ريال ، وعندما صادر الخليفة أموال التاجر عمر كشة بلغت قيمتها في المرة الاولى والثانية ثلاثون ثلاثون الف ريال على التوالى ( قدال، المرجع السابق، ص 106) .
هذا وقد حقق التجار ارباحا في مجاعة سنة 1306 ه عندما ارتفعت اسعار الذرة وغيره من الأسعار بشكل جنوني، كما بلغت الأموال التي تمت مصادرتها من الياس امبرير 1761 ريالا وتفيدنا وثائق المهدية بمعلومات كثيرة عن ثراء التجار فمثلا بلغ ايجار مصنع الصابون الذي كان يؤجره بعض التجار في شهر محرم 1315 ه 1701 ريال، اذا كان هذا هو الايجار، فيمكن تصور الأرباح الكبيرة التي كان يحققها هؤلاء التجار من ادارة هذا المصنع، كما تفيدنا الوثائق ايضا عن مشاريع الحكومة الأخرى التي كانت تؤجرها للتجار مثل مشارع امدرمان ( 4 مشارع ) التى كان يبلغ ايجارها السنوى 13,500 ريال كان يدفعها سنويا هؤلاء التجار – حاصل جمع الايجار السنوى لاربعة مشارع – ( نفسه : 156 )
ثالثا : الفئات الوسطى :
وتشمل هذه الفئة متوسطي موظفي الدولة من الكتبة والقضاء والعاملين في جمع الزكوات وغيرها، وكانت مرتبات تلك الفئة تتراوح بين عشرة وعشرون ريالا ، كما كان الكاتب يتقاضي ثمانية ريالات ( قدال : 175 ) . وكان الكتاب يتقاضون المرتبات نقدا وعينا حسب النظام الذي اتبع في المهدية وكان المرتب النقدي يدفع على أساس المرتبة أو الفئة التي ينتمي اليها الكاتب، في حين كان يدفع المرتب العيني على أساس أفراد العائلة وبالنسبة الى ذلك ، فان المرتب النقدي هو الذي يمكن أن يدلنا على موضع الكتاب ومكانتهم بالنسبة الى الفئات الاخرى، وعلى سبيل المثال أورد د . محمد إبراهيم ابوسليم كشف مرتبات دنقلا عن محرم سنة 1313 ه الذي يوضح أن حامد البدوى كاتب يونس الدكيم قد تقاضي عن هذا الشهر 35 ريالا وأن كلا من مساعديه قد تقاضي 10 ريالات ، وذلك في حين تقاضي وكيل بيت المال 20 ريالا وأمين الشونة 15 ريالا وكل من أمين المبيوعات وأمين النقود وأمين الزكوات 7,5 ريالا .
أما في طوكر، فان كاتب اول بيت المال كان يتقاضي 10 ريالات من جماد أول سنة 1306 ه ثم عدلها الأمناء في شوال الى 15 ريالا ، والكاتب الثاني كان يتقاضي 6 والثالث 5 ثم عدلها الأمناء من شوال الى 8 ريالات ، وفي الوقت نفسه كان عثمان يتقاضي 40 ريالا ، وكاتب الادارة 6 ريالات ، ونائب الشرع 10 ريالات والترجمان 5 ريالات ..
أن هذه المرتبات توضح أن كتاب الامراء الذين كانوا يتولون التحرير كانوا يتقاضون مرتبات عالية ، وفي ذلك دلالة على أهميتهم البالغة ومكانتهم العالية ، وبالطبع
، فان هذا يعطينا صورة لمركز كتاب الديوان العام في امدرمان.
(د. محمد إبراهيم ابو سليم : الحركة الفكرية في المهدية، 1970 ، ص 87 – 88 ) .
ولكن عموما ، فان هذه الشريحة كانت محدودة وقليلة العدد .
رابعا : الحرفيون :
اتسعت هذه الفئة بشكل كبير في تلك الفترة ، وبنظرة عامة الى اماكن وساحات الحرفيين في سوق امدرمان في تلك الفترة ، نجد أنها كانت تتكون من الحدادين ، الصاغة ( صناعة الذهب والفضة ) ، والدباغون ( دباغة الجلود ) ، والنجارين ، والحلاقين ، وصانعي الصفائح ، وصانعي الأحذية ( الاسكافيون ) ، وصانعي سروج الخيل والحمير ، هذا اضافة للحرفيين العاملين في الصناعات الأخرى مثل صناعة الفخار ( الأزيار ) وصناعة الغزل والنسيج ، وصناعة المراكب والسواقي وكمائن الطوب .. الخ
نواصل

 

آراء