مجاعة وشيكة بالسودان والبقاء للأقوى

 


 

 

د. محمد عبد الحميد /أستاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية

كلما طال أمد الحرب كلما تدهورت الأوضاع، وزادت معاناة المواطنين وتآكلت مقومات أمنهم الإنساني على كل الصُعُد وعلى وجه الخصوص الأمن الغذائي. فالمعروف أن هذا الأخير يقع في قلب مقومات الأمن الإنساني لما يستمد منه الإنسان الفرد أسباب بقاءه على قيد الحياة، دون أن تدركه غوائل الجوع وتتحكم فيه غريزة البقاء فيستحيل لوحش كاسر يهدد أمن الآخرين عندما تطلق تلك الغريزة العنان لنوازع الحيوان التي بداخله فتنتفي ساعتئذ معالم الحياة المجتمعية ويكون البقاء للأقوى Survival fot the fittest
وغنيٌ عن البيان القول أن إنتفاء مقومات الأمن الغذائي تبدأ من أهم عوامله وهي فقدان القدرة على الإنتاج ، فندرة المنتج ثم فقدان القدرة الشرائية. وهذا ما فعلته الحرب تماماً إذ تقطعت سلاسل الإمداد، ودُمرت البنية الصناعية الهشة أصلا في الخرطوم والتي كانت بمثابة الشريان الذي يغذي الأسواق و يؤمن الإحتياجات اليومية من مواد تموينية وغذائية مصنعة مثل الدقيق بكل أنواعه و اللحوم الحمراء والبيضاء والألبان ومشتقاتها والمعلبات وزيوت الطبخ... إلخ كما أن تأثر القطاع المصرفي بشكل مباشر بالحرب وتعرضه للنهب جعله خارج الخدمة بدرجة كبيرة لاسيما البنوك مركزية الطابع المتواجدة في العاصمة الخرطوم وهو الأمر الذي أثر بشكل كامل على كل عمليات الإنتاج لاسيما الإنتاج الزراعي بشكل مباشر وعلى تمويل الموسم بصورة سلبية. فمعظم المزارعون الذين ينتجون الحبوب الغذائية لا يملكون القدرة على تمويل عملياتهم الزراعية تمويلاً ذاتياً ومع عجز البنوك عن الإيفاء بتمويل المزارعين فقد يفشلوا في زراعة أراضيهم وهذا ما قد يهدد الموسم برمته. خاصة وأن الدولة غائبة الآن في كل الإقتضاءات المالية ولا يشغل بال وزير ماليتها الحالي إلا جمع الضرائب والجبايات والمكوس كضرورة تخص وضعه كقائد لجيش منفصل هو الآخر عن جيش الدولة. فهو بذلك لا يعبأ ولا يأبه لما بات يتهدد البلاد من خطر مجاعة وشيك.
وأكثر ما يفزع الضمير الإنساني الحي أن أضلاع رباعي مدخلات العملية الزراعية المستجلبة والمتمثل في (التقاوي، الوقود، الأسمدة والمبيدات) قد تهاوى تحت ضربات موجعة سددتها له العمليات الحربية فأنفرط عقده ولم يعد بوسع الدولة ولا وسع القطاع الخاص أن يفي بالتزاماته في عمليات الإمداد به وبذلك أصبح الحديث عن نجاح العملية الزراعية المنتجة للغذاء شبه مستحيل.
هذا فضلاً عن أن السودان لا يملك مخزوناً إستراتيجياً من الغذاء يمكن أن يؤمن إمداد المواطنين بإحتياجاتهم الغذائية لحين انجلاء الأزمة الراهنة. وما يتوافر الآن هو متبقي ما تدخره بعض الأسر من انواع الطعام الجافة شارفت على النفاد إن لم تكن قد نفدت. وبالتالي فإن الوضع الماثل الآن ومن منظور دراسات الكوارث والأمن الإنساني يُنذر بمجاعة ماحقة مع نفاد السيولة من معظم أيدي المواطنين.
لذلك يمكن القول بأن كل نذر الكارثة المتمثلة في مجاعة أخذت تلوح في الأفق وتتزايد ملامحها بروزاً مع اشتداد ضراوة القتال المصحوب بحركة نزوح واسعة للطبقة الوسطى في الخرطوم التي كانت تحرك معظم عمليات الإمداد على مختلف مستوياتها وأنواعها.. هذا إضافة لما يمكن أن يشكله الإنسحاب القسري للمنظمات الإنسانية التي كانت تقدم العون في مثل هذه الظروف بعد أن تعرضت معظم مقارها ووسائل عملها للنهب والتخريب المتعمد وغادر على إثر ذلك معظم كوادرها تحت القصف عبر عمليات الإجلاء الواسعة التي تمت للأجانب منهم.. فإذا ما قُدر لهذه المنظمات أن تعود للعمل لتسهم في تخفيف وطأة المجاعة أو تأخير حدوثها فإنها لن تُقدِم على ذلك إلا بعد ضمانات حقيقية بفتح ما يسمونه بمسارات إنسانية آمنة Safe humanitarian corridors وهذا ما لا يمكن أن يتوفر والحرب يضطرم أوارها في مركز البلاد وقلبها النابض. لذلك يمكن القول وبأسى أنه ومع استمرار الحال على هذا المنوال فربما تتحرك غريزة البقاء لدى الجوعى ليس فقط وسط المسحوقين من سكان أطراف المدن من الفقراء والمهمشين، بل وسط من تبقى من أبناء الطبقة الوسطى أنفسهم الذين لم يكابدوا شظف العيش من قبل، فيحيلوا ما تبقى من السودان في كل أصقاعه لغابة ينهش فيها بعضهم بعضاً عملاً بمبدأ البقاء للأقوى.
د. محمد عبد الحميد

 

آراء