هذه التصورات اللعينة المتوهمة للعبور

 


 

 

لن تستطيع أي من القوى التي تتنازع العرش اليوم أن تحكم سودان ما بعد الثورة بعد أن تضع هذه الحرب أزارها.
ولو أن قادة أي فصيل منهم كان يتمتع بقليل من الحكمة والذكاء لكانت هذه قناعتهم من البداية، ولما تجشموا عناء الصراعات الصبيانية التي انخرطوا فيها دون وعي أو تدبر وتفكير.
ولكن ماذا تقول؟. إنه الطمع والجشع وشح الأنفس الرخيص يعمي القلوب التي في الصدور.
إذن ماذا كانت نتيجة هذه الحرب العبثية الغبية؟.
ألم يكن هذا ما انتهينا إليه في حديثنا السابق؟.

25
في دفتر مهام الثورة الذي بين يدي لجان المقاومة وقوى الثورة الحية مقعد قيادة المرحلة القادمة "شاغر" لن تشغله أي من القوى السياسية، والمسلحة (الدستورية منها وغير الدستورية).
واذا كان لا بد من فيتو فلا بد من أن يكون بيد لجان المقاومة وشبابها من الجنسين، مناصفة بينهما.
بمعنى أوضح ومباشر: لم يعد للجنة البشير الأمنية وعلى رأسها البرهان، أو لحميدتي والدعم السريع، أو لمركزية الحرية والتغيير، أو للفلول، أو للحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية، أو الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا، وتلك التي لم توقع، كما لم يعد لغيرهم من كيانات وأحزاب حقيقية أو افتراضية، أي حق بتحديد ملامح مرحلة "ما بعد الحرب"، أو فرض رؤيته و وضع أجندتها، أو قيادتها.
لقد فقدت هذه القوى "شرعية القيادة"، ولم يعد "حق الفيتو" بيد أياً منها. وذلك لسبب بسط وبديهي، وهو، أن هذه الكيانات قصدت أو لم تقصد، هي جزء من الأزمة. وهي أرادت أم لم ترد من تسببت في تعطيل مسار قطار الثورة عن الوصول لنهاياته المرجوة.
وبالتالي لا يمكنها أن تقوده للوصول إلى غايته.
إلا أن السبب الأهم من انخراطهم في الأزمة، والذي يحول بينهم وبين شرعية قيادة مرحلة ما بعد الحرب، هو أنها ليست مرحلة يحتكر الرأي فيها قطاع من قطاعات القوى السياسية المدنية وأحزابها، أو العسكرية، وإنما القيادة فيها حكر للشعب – تمثله لجان أحياء المقاومة وقوى الثورة الحيَّة – وهي قيادة جماعية بالضرورة.

26
صحيح أن فلول النظام الإسلاموي المندحر هم من أشعلوا فتيل الحرب، وأنها لم تكن خيار الجيش وقراره. ولم يعد أحد يجهل أو يماري في هذا.
والكل يعلم بأنهم يخططون الآن لمرحلة ما بعد الحرب بعد إطالتها لأطول فترة ممكنة (1). , وان تسليح المواطنين هو كرت الفلول الأخير لإشاعة الفوضى الشاملة والاقتتال الأهلي تمهيداً لعودتهم للحكم عبر انقلاب ينفذه عسكرهم في قيادة الجيش، وهم معلومون بالاسم. وقد أصدروا بياناً باسم وزارة الدفاع يدعون فيه للتعبئة العامة للشعب، للانخراط في الحرب ضد الدعم السريع الذي أعجزهم ، ما دعا أسرة وزير الدفاع لإصدار بيان نفت فيه نسبة بيان التعبئة إليه.
في وقت أكد فيه المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى السودان، ممثل الأمين العام للمنظمة الدولية فولكر بيرثيس، أن القوات المسلحة السودانية، وبقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، أدركا أن "لا مفر" من الجلوس على طاولة المفاوضات لإنهاء الحرب و"فتح حوار سياسي شامل جديد".

27
ألم نقل هي "قصة موت معلن"، على مستوى أكبر، ولكنه أوضح كذلك ؟!.
في مثل هذه المواقف المعقدة والمتقاطعة و "المشربكة" الخيوط والخطوط، أهم برمجة في إدارة الأزمة يجب أن تبدأ، لإطفائها، بانتزاع علبة الكبريت من يدي نافح الكير، من يشعل النار ويزيدها نفخاً وحطباً، وتأجيجاً. وهم فلول النظام الإسلاموي والناشطون سعياً في إشعال نار الفتنة.
ورغم أن دفتر مهام اللجان وقوى الثورة لا يعتبر أن وقف المعارك يعني نهاية الحرب، إلا أنه بداية المشوار لكسب الحرب.
ولا يهولن أحداً قولنا باستمرار الحرب.
لأنها حرب بالفعل، وهي آخر الحروب لبناء السودان الجديد/ الحلم القديم.
وإذا كان دور الكيزان والفصيلين العسكريين (حميدتي والجيش المختطف) واضح معروف، إلا أن قوى الكيانات والاحزاب (المؤيد منها والمعارض) التي انخرطت في صياغة المشهد على ما هو عليه الآن، ساهمت، وربما، بقدر مساوٍ للدور الذي لعبه الفلول والفصيلين المتقاتلين.
لقد تساووا، جميعهم في تسببهم بالمأساة التي يعيشها الناس، وفي جر "شبه الدولة" السودانية إلى حافة السقوط والاندثار. وما من داعٍ، وما من حاجة الآن للخوض في تفاصيل كيفية فعلهما ذلك، فقد لاكته الألسن والأقلام حتى كادت تجف وتنشق حلوقهما (الألسن والأقلام).

28
والآن.
حين يسأل الناس أنفسهم في حيرة: "وبعدين"؟؟.
ما الذي يخرجنا من هذه "الورطة"؟. ستجد شبه اتفاق على أن مفتاح الحل يكمن في "اتفاق" كل القوى المتضررة من هذه الأزمة لمواجهة قوى الردة وممانعة التغيير....و(خلاص) ينتهي الموضوع !.
والحال أن طرح المسألة على هذا النحو لا يخلو، لسهولته المجانية، من "كلفتة". لأنه يتعمد المرور بعدة محطات في طريق هذا الحل دون توقف، رغم مفصليتها.
- كيف يمكن وضع كل هذا البيض في سلة واحدة دون أن يتكسر؟. على أي أساس ستتفق كل هذه الأيديولوجيات المتناقضة، والمصالح المتباينة، والأهداف المتضاربة؟.
يقال لك: أن تتفق على اسقاط الانقلاب، وهذا حدّ أدني لا يمكن أن يختلف عليه عاقلان.
نعم.
ولكن رغم بداهته هذه تنتطح عليه عنز الأحزاب.
تقول مركزية الحرية والتغيير: نعم للتفاوض. ويقطعون ما بينهم والشباب.
فيرد الجذريون: لا للتفاوض. وهم يعولون على دماء الشباب.
ويسيران بلا هوادة في خطين متوازيين لا يلتقيان ... إلى يوم القيامة !.
وبداهة لن يصل أي منهما لأي نتيجة !!.
- فبدون الشباب كرأس رمح ضاغط، وداعم لأي حل سياسي، لن يتحقق.
- ودم الشباب وحده غير مدعوم بتوافق وإجماع شعبي لن يحقق أي شيء.
وهكذا تختلف مكونات وأجنحة القوى السياسية حتى في هدف إسقاط الانقلاب (رغم بداهته).

29
ولا يظنن غافل ما أن هذا مجرد اختلاف تقني يقتصر على "كيفية" تحقيق الهدف المتوافق عليه، وهو إسقاط الانقلاب. لأنه في باطنه يضمر خلافاً أيديولوجياً غير مصرح به، سيتفجر فور تحقيق اسقاط الانقلاب، ليعود بنا مرة أخرى إلى مربع "أزمة الانتقال" المزمنة. مفسحاً المجال لقوى الردة وممانعة التغيير: التقليدية في الأحزاب، ومؤدلجو العسكر وطامعيهم!.
وهذا هو جوهر أزمتنا مع نخبنا السياسية والعسكرية. فعقلهم السياسي لم يبلغ سن الرشد السياسي بعد، فهو لا يزال يدرج في مراحل عقل "ما قبل" الحداثة. وبالتالي يغيب عنه مفهوم الدولة الحديثة كهوية كبرى، الذي تسبقه وتغطيه الهويات الصغرى(القبلية، الطائفية، الاثنية .... الخ) كوعي ما قبل الحداثة.
ولهذا لا يمكنك أن تطلق على منظماته، في مستواها هذا، مسميات/ صفات مثل الحزب والنقابة والبرلمان، لأنها منظمات من حيث بنيتها الداخلية، بل وخطابها أقرب ما تكون إلى بنية وخطاب الكيانات الطائفية والاثنية القبلية في العقل ما قبل الحداثي، في مستوى هوياتها الأصغر.
ولهذا تفشل دائماً – وهذه نتيجة حتمية ومنطقية – في اختبار تحديات إقامة أو تأسيس الدولة الحديثة، ما لم تتجاوز وعيها "المتخلف" هذا وتتحرر من أغلال عقلها الـ "ما قبل الحداثي" هذا، لينفتح على آفاق هويتها "المدولنة" الكبرى.

30
وثمة لعبة خبيثة، ولكنها ساذجة طفولية يلجأ إليها العقل ما قبل الحداثي في محاولته للتغطية على عجزه.
فلتجنب المغامرة، وتعويض هذا الفشل، تلجأ هذه النخب إلى آلية تعويضية احتيالية، تتمثل في "مسرحة" ما تسميه النضال الوطني من أجل قوة الدولة ورفاه شعبها، وترفع لذلك لافتات أهداف وطنية غائمة مزيفة، وهي عبارة عن "تصورات" خاصة بها وبمصالحها وتوجهاتها الفكرية، لـ "ما ينبغي" أن يكون عليه الوطن ودولته.
" فكل واحد وله تصوره لهوية الدولة، حسبما تقرر له أيديولوجيته. وهذا ما نسميه بقتل الدولة. فالدولة في ذهنهم هي أداة لفرض مثالهم الأيديولوجي لا غير" (2).
وهذه فهلوة و"لعب على الدقون" لا ينبغي، ولا يمكن أن تتأسس عليه دولة حقيقية مستدامة.
فهي تعجز عن الوفاء بمتطلبات واستحقاقات إقامة الدولة الحديثة، لأنها لا تستطيع التحرر من بنية عقلها الـ "ما قبل الحداثي"، فتجعل من عجزها قوة، ومن نقصها فضيلة، فتسعى إلى تقليص الدولة على مقاس هويتها الصغرى.
وتلك محاولات عبثية من “الجزئي” لاحتواء “الكلي".
أي أنها تقوم بتضييق الواسع/ الدولة، وتوسيع الضيِّق/ أيديولوجيا الهوية الصغرى.
وهذا ما شبهته في غير هذا المكان، وكأنما فأر يحاول أن يبتلع فيلاً !!.

31
لست على علم إن كانت قيادات الأحزاب والمنظمات المدنية على استعداد للمغامرة بتغيير عقلياتهم والتحرر من سجن ايديولوجياتهم، وانتماءاتهم الثقافية الاثنية والقبلية والطائفية، أم لا.
ولكن المؤكد يقيناً: أنهم، ودون هذه المغامرة على مستوى الوعي، سيظلون حجر العثرة الكؤود أمام تقدم هذا البلد، بل سيكونون ضمن المعاول الفاعلة بقوة وبنشاط في هدمه، بعد أن نجحوا – أو كادوا – في تفكيكه على نحو ما نراه ونعايشه اليوم.
أعلم بالطبع صعوبة التحرر من أسر قيود عقل اللادولة، أو ما قبل الدولة كهوية صغرى أقرب التصاقاً بالوجدان الجمعي. وتستطيع أن تتفهم الخوف من التخلص لإحلال "الدولة" كهوية كبرى جامعة. وهذا الخوف في الواقع يتأسس على "وهم" بأن هذه الأخيرة ستبتلع الهوية الصغرى وتلغيها تماماً.
وهو خوف متوهم، لأن الدولة كهوية كبرى لا تلغي ولا تمحو الصغرى من الوجود، وإنما هي تطوير لذات العاطفة الوجدانية التي تنبع منها الهوية الصغرى.

32
وأقرب مثال لها هو تطور مراحل خلق الانسان.
فالجنين في رحم أمه هو ذات الحيوان المنوي لحظة اتحاده ببويضة الأم، ولكنه وهو جنين مكتمل ليس ذات النطفة ولكنه هو هي بذات الوقت وإنما بهيئة متطورة.
وكذلك الطفل بعد ولادته، إنه ليس ذات الجنين في الرحم ولكنه هو أيضاً، بهيئة أكثر تطوراً.
فالإنسان، بانتمائه الوطني للدولة – كهوية كبرى – لا يخلع عنه انتماءه الأصغر. بل يظل، أيَّاً كانت قبيلته أو ايديولوجيته: بجاوي جعلي تاماوي برقاوي، شيوعي إسلامي ..الخ، ولكنه سوداني، كهوية كبرى ينتمي فيها مع الجميع في هذه الهوية. وإذن فإن انتماءه لهويته الوطنية الكبرى لم يمح أو ينسخ هويته الصغرى، أيديولوجية سواء كانت أو إثنية، بل أضاف لها وجعلها أكبر.

33
فقط هنا يمكن الحديث عن توافق مبدئي يتجاوز الحواجز، لتوحيد الإرادة. فهل نخبنا السياسية والعسكرية قادرة على المغامرة لتجاوز أطرها الفكرية والأخلاقية الموروثة للعبور إلى مستوى بنية عقلية أكثر عقلانية؟.
من ناحيتي أغلِّب الإجابة بـ "لا".
لقد تخشّبوا، وهناك كثير من الشواهد الحية بيننا لأفراد وجماعات غادروا قواقعهم الأيديولوجية بأجسادهم، ولكنهم غادروها مستصحبين معهم عقلهم المؤدلج بكل علله وأغلاله.
لأسباب كثيرة لا أظنهم يستطيعون وبمحض إرادتهم أن يعبروا صراط الوطنية المستقيم هذا.
فما الحل مع هذه القوى العنيدة المعاندة ؟.

مصادر وهوامش
(1) راجع: " من داخل بيت العنكبوت ..تاكتيك جديد للكيزان: ادخار القوة" موقع الراكوبة، بتاريخ 25 مايو 2023.
https://www.alrakoba.net/31832928
(2) الدولة وظلّ الأيديولوجيا الأعوج ، عزالدين صغيرون، موقع صحيفة سودانايل الرقمية، بتاريخ 28 سبتمبر, 2021

izzeddin9@gmail.com

 

آراء