التنميط النفسي الجنائي

 


 

 

"شوية سيكولوجي 28 "
Psychological Criminal Profiling
بداية نقول بأن علم النفس الجنائي قد بدأ في التكون والظهور كفرع اكاديمي في شكل كتابات ومحاضرات في نهايات القرن الثامن عشر ، ويعتبر هوقو منستنبرج العالم الألماني الامريكي الجنسية (Hugo Munsterberg, 1863-1916) اول من بدأ ما يسمى الان بعلم النفس الجنائي عام 1908 .. وفي كتابة "على منصة الشهود On the Witness Stand" أوضح لأول مرة كيف ان العوامل السيكولوجية قد تؤثر في محتوى وسير المحاكمات الجنائية. ويعتبر علم النفس الجنائي فرعاً تطبيقياً في علم النفس ، وعلى الرغم من طول القائمة التفصيلية للأسئلة التي يطرحها ، إلا أنه يمكن لنا اختصارها في سؤالين أساسيين.. السؤال الأول هو: كيف لعلم النفس أن يرفع مستوى فهمنا للجريمة وأسبابها ودوافعها ونتائجها ومنعها والوقاية منها (مع التفرقة ما بين الجريمة الغرضية Instrumental والتي يرتكبها الجاني لسد حاجة مادية فعلية لديه ، والجريمة التعبيرية Expressive والتي يرتكبها الجاني استجابة لدوافع نفسية لديه غير مدفوع بحاجة مادية) .. والسؤال الثاني هو: كيف لعلم النفس أن يعين النظام العدلي للدولة The Justice System ومؤسساته (الشرطة والقضاء مثلاً) في تعاملهم مع الجريمة والمجرمين والشهود ، واعداد احصائيات لنسبة انتشار الجريمة في المجتمع ، وبالطبع فانه لتحديد نسبة الانتشار وإعداد قائمة بيانات شاملة Data Base فان الجهات العدلية تستخدم أربعة مناهج لذلك ، وهي: احصائيات الشرطة ؛ مسوحات ضحايا الجرائم Victims Surveys ؛ دراسات الملاحظة Observational Studies ؛ والتقارير الذاتية Self-Reports.
وتقودنا هذه المقدمة عن علم النفس الجنائي لموضوع التنميط النفسي الجنائي Psychological Criminal Profiling كفرع أساسي في علم النفس الجنائي ، وما يختص منه بالتحقيقات الجنائية تحديداً.
لا شك في ان الكثيرون منا قد شاهدوا او يشاهدون الحلقات التلفزيونية الامريكية بعنوان " تحقيقات مسرح الجريمة Crime Scene Investigations CSI والتي اكتسبت شهرة عالمية نسبة لعرضها في مختلف دول العالم وتحظي بنسبة مشاهدة عالية جداً .. هذه الحلقات تعكس إلى حد كبير ماهية التنميط السيكولوجي الجنائي .. والذي يعرف بانه استنتاج خصائص أو مميزات أو سمات الجاني مرتكب الجريمة (Profiling) من خلال سلوكه الذي يتبدى أو يستنتج من آثاره السلوكية التي يتركها في مسرح الجريمة (ومن الواضح أننا نحتاج لذلك في حالات الجرائم التي لم يحدد فيها الجاني بعد والجرائم الغامضة ، وكذلك الجرائم الخطيرة والعنيفة كالقتل والاغتصاب والجرائم التسلسلية Serial Crimes)) .. وقد يشمل ما يستنتج من الآثار نوع الجاني من حيث الذكورة والأنوثة والعمر ونوعية العمل والموقع الأصلي للجريمة واحتمالات مكان سكنه أو تواجده الجغرافي.
ويقوم بالتنميط السيكولوجي الجنائي بمعونة افراد من الشرطة الجنائية اما متخصص في علم النفس الجنائي Criminal Psychologist أو شرطي من التحقيقات الجنائية تم تدريبه على التحليل السيكولوجي لمسرح الجريمة وتحليل شخصية الجاني ، ويطلق على كل منهما Profiler ، وقد يقوم به فريق من المتخصصين بذات المواصفات Profilers.. ومصادر التنميط التي يعتمد عليها في التنميط السيكولوجي الجنائي هي : رواية الضحية The Victim's Account وقد لا تتوفر في حالة موت الضحية ؛ شهادة الشهود The Witnesses Account ؛ المعلومات المتعلقة بالضحية ؛ تقرير الطبيب الشرعي The Forensic Doctor بعد اجراء تشريح الجثة Autopsy ويعرف باسم The Post-Mortem Report ، وكذلك بعض المجرمين ؛ وبخاصة القتلة التسلسليين منهم والذين غالباً ما يتركون في موقع الجريمة شيئاً ما ككتابة كلمة معينة أو رقماً معيناً أو شيئاً ما ، وذلك امعاناً منهم في تحدى الشرطة والتبجح بقوتهم أو ما إلى ذلك ، ويعرف ذلك لدى الشرطة الجنائية بتوقيع المجرم Signature.
وينقسم التنميط النفسي الجنائي إلى شقين .. الشق الأول هو التنميط الجغرافي Geographical Profiling ، وهو معني بمحاولة معرفة وتحديد المنطقة الجغرافية أو السكنية التي ينتمى اليها الجاني عبر مراجعة نوعية الجرائم التي ارتكبها ان كان له تاريخ جنائي ، وتحليل كل آثار الجاني التي يتركها في مسرح الجريمة ويمكن ان تدل على موقع سكنه او اقامته مثل تحليل آثار الحذاء على مسرح الجريمة ويشير الى حجم الحذاء ونوعيته ، وربما التراب أو الرمل المتخلف عن الحذاء ويرتبط بمنطقة معينة ، وهكذا .. وفي بروتكولات الشرطة الجنائية الامريكية والكندية في التنميط الجغرافي يقسمون المجرمين الى نوعين : من يسمونهم المتنقلون Commuters وهم عادتاً ما يرتكبون جرائمهم في منطقة جغرافية محددة لا تبعد عادة عن أماكن اقامتهم ، ومثالهم لصوص المنازل ولصوص الأسواق والذين يسرقون بالخطف والهروب .. والنوع الثاني وهم من يطلق عليهم اسم الصيادين Hunters وهؤلاء يمكن أن يذهبوا لمسافات ومناطق بعيدة جداً عن مناطق اقامتهم لارتكاب جرائمهم ، فكما أن الصياد قد يذهب بعيداً جدا للبحث عن فريسته أو مطارداً لها ، فهكذا هذا النوع من المجرمين ، وعادتاً ما تصنف جرائمهم كجرائم تعبيرية Expressiveوتتسم بالخطورة بما في ذلك القتل والاختطاف والاغتصاب ، ومن بين هؤلاء القتلة التسلسليون Serial Killers ..
والشق الثاني من التنميط هو التنميط النفسي الجنائي لشخصية الجاني .. وفيه يكون تركيز المنمط الجنائي The Profiler على محاولة تحديد الخصائص الشخصية والسلوكية للجاني من خلال آثار سلوكه التي تظهر في مسرح الجريمة للتعرف والقبض عليه ، ومن هنا جاءت عبارة " تحقيقات مسرح الجريمة CSI.

عناصر أساسية في التنميط السيكولوجي الجنائي لشخصية المجرم (* القائمة ليست حصرية)
الدافع Motive النوع (ذكر أم أنثى) Gender
ذو سوابق Repeat Offender المدى العمري Age Range
منظم أو غير منظم Organized/Disorganized الاثنية العرقية Ethnicity
متنقل ام صياد Commuter or Hunter السمات الجسمية Physical Characteristics
تسلسلي Serial العنف Violence
يترك توقيعاً Signature ? السكن Residence
المدى الزمن بين جرائمه Time Laps الارتباطات الاجتماعية Social Ties
عاقل أم غير عاقل Sane/Insane الأسلوب Method/Style

ويمكن لنا تحديد ثلاثة أنواع من التنميط الشخصي للجاني ، وهي:
• التنميط الاحصائي Statistical Profiling : ويتمثل في خلق قاعدة بيانات Database عن ارتباطات لجرائم سابقة بصفات معينة للجناة وآثارهم على مسارح الجرائم ، ومقارنة الجريمة الحالية بالسابقة ، ويطلق عليه ايضاً اسم ارتباطات الجرائم Crime Linkage.
• التنميط الاكلينيكي Clinical Profiling : وفيه يعتمد القائم بالتنميط The Profiler على خبراته السابقة وتمرسه وما تدرب عليه في تحليل الأثار السلوكية للجاني بهدف تحديد سماته وخصائصه مما ييسر عملية القبض عليه ( وقد اكتسب في الولايات المتحدة عدد من المحققين الجنائيين نجاحاً وشهرة واسعة باعتبارهم خبراء متمرسون في التنميط السلوكي لشخصيات المجرمين واعتقالهم ، ومن أشهرهم جون ادوارد دوغلاس John Edward Douglas والذي التحق بوحدة التحقيقات الجنائية القائمة على العلم السلوكي The Behavioral Science Unit عام 1977 ، وقام بتأليف العديد من الكتب وإلقاء العديد من المحاضرات حول التنميط السلوكي الجنائي للمجرمين).
• التنميط بتصنيف وفق تصنيفات مكتب التحقيقات الفدرالي FBI Typology Profiling : وقد تم تطوير هذا النوع استناداً إلى المقابلات Interviews مع مترددي الاجرام Repeat Offenders والقتلة التسلسليين المقبوض عليهم Serial Killers .. ويصنف هذا النوع من التنميط الجناة إلى منظمين Organized ، وغير منظمين Disorganized ، فكل منهما يترك آثاراً معينة على مسرح الجريمة .. ولسنا بحاجة للقول [ن المجرم غير المنظم هو الذي يترك آثاراً عديدة بائنة تيسر التعرف عليه واعتقاله.
وهنالك تصنيفات أخرى في التنميط الجنائي حيث يصنف الجاني وفقاً لطريقتين للتنميط هما التنميط من اعلى لأسفل Top-Down profiling ويشيع استخدامها في الولايات المتحدة الامريكية من قبل وكالة المخابرات الفدرالية FBI ، وهي طريقة تقوم على التصنيف Typology ويصنف فيها المجرم على أساس انه منظم Organized او عشوائي او غير منظم Disorganized ، وتعتمد هذه الطريقة إلى حد كبير على خبرات وتمرس القائمين بالتنميط. والطريقة الثانية هي التنميط من أسفل إلى اعلى Bottom-Up Profiling ويشيع استخدامها في المملكة المتحدة من قبل شرطة سكوتلاند يارد Scotland Yard بمدينة لندن ومدن بريطانية أخرى عديدة ، وتعتمد هذه الطريقة على البدء بالمعلومات الأولية التي ربما تستخلص من قاعدة البيانات Database ثم يبنى عليها شيئاً فشيئاً ، وتضاف اليها معلومات التنميط الجغرافي Geographical Profiling. ونشير أيضاً إلى أنه في غالب الدول التي تقوم شرطتها الجنائية باستخدام التنميط الجنائي ، فانه في حالة أن يكون مرتكب الجريمة شخص واحد يطلق عليه تصنيف "الذئب الوحيد Lone Wolf" .. ولا ننسى أن نذكر أن بعض من القتلة التسلسليين ما هم إلا مقلدين لجرائم تسلسلية سابقة ، ويطلق عليهم لقب Copy Cats ، وربما كان أفضل تمثيل لجرائمهم الفلم السينمائي الذي قامت ببطولته سيغورني ويفر Sigourney Weaver عام 1995 بعنوان "Copycat".
وبقي لنا أن نشير إلى ان ما وصفناه أعلاه من أنواع للتنميط النفسي الجنائي ليس حصرياً ، فمختلف الأجهزة الشرطية المعنية بالتحقيقات الجنائية عبر العالم لها تصنيفاتها واساليبها الخاصة بها في التنميط النفسي الجنائي ، ونذكر منها الشرطة الأمريكية والكندية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والروسية والباكستانية ، إلخ ، ويعكس ذلك التباينات الثقافية والاجتماعية والبيئية والاقتصادية بين كل هذه البلدان .. وفيما يتعلق ببلدنا السودان ، فلا شك في أن شرطتنا العريقة قد طورت عبر مسيرة نموها ؛ وبخاصة منذ تحقيق استقلال الدولة السودانية ، اساليبها ونظمها الخاصة في التحقيقات الجنائية ، وهي تحقق نجاحات بائنة في الكشف عن الجرائم .. ومما يعين على ذلك أيضاً طبيعة الجرائم المرتكبة ، فمثلاً نجد أن جرائم القتل التسلسلي Serial Killing والتي تكثر في العالم الغربي والاوربي Western and European Worlds منعدمة تقريباً في السودان (* والحالة الوحيدة المسجلة بمضابط الشرطة للقتل التسلسلي هي حالة من سمى بأبو جنزير ، والتي كان مسرحها الكبير مدينة عطبرة في أواخر خمسينيات القرن الماضي ، وكان المتهم بالقتل التسلسلي شخص يدعى محمد عبد الجبار ، ويلقب بمحمد عوارة .. وكان توقيعه المميز لجرائمه Signature هو استخدامه لجنزير من جنازير الدراجات الهوائية يستخدمه في ضرب الضحايا حتى الموت أثناء نومهم أو بعد تخديرهم .. وقد تم القبض عليه بعد أن افلتت منه احدي الضحايا وأدلت بأوصافه للشرطة ، ولكن أصدر القاضي الشهير عبد العزيز شدو حكماً عليه بالبراءة نظراً لعدم كفاية الأدلة ، ووضعة تحت مراقبة حسن السير والسلوك لمدة اربع سنوات).
وحالياً بالسودان ؛ وتحت إشراف الدكتور طيفور سيد احمد البيلي ، يقوم الباحث أحمد محمد أحمد محمود المحاضر بقسم علم النفس السريري والجنائي بجامعة الرباط الوطني باستكمال رسالته في التنميط النفسي الجنائي لنيل درجة الدكتوراة في علم النفس الجنائي ، ويتوقع أن تكون للرسالة بعد اكتمالها باذن الله منعكسات إيجابية نظرية وعملية تنضاف إلى رصيد شرطة التحقيقات الجنائية بالسودان.
طيفور البيلي

talbeely@gmail.com

 

آراء