الشاعر اللبناني عباس بيضون: “الطيب صالح رواية المستقبل” .. مختارات: عبد المنعم عجب الفَيا

 


 

 

غاب الطيّب صالح. لكن غيابه الأدبي(1) تمّ قبل ذلك بعقود. وإذا استمعنا لبعض صحبة الطيّب فهمنا أنه لم يكتب إلا تحت إلحاح. إذن، عجل الطيّب إلى هجر الأدب. فقد هجره غير آسف. قابلته فلم أجده شقيًا بما فعل شأن كثيرين خذلتهم مواهبهم وتخلت عنهم النعمة.
ظلّ الطيّب أنيسًا محدّثًا، وظل خزانةً للأدب القديم، وراوية للشعر، كأن السحابة التي أمضاها في دنيا الأدب لم تنتزعه من مكانه الأولي، مكان المحدث والراوية. مع ذلك لا يجهل عارفٌ بالأدب أيًا من عناوين الطيّب الخمسة أو الستة. لم يكتب كثيرًا، لكن القليل الذي كتبه بقي جميعه في الذاكرة، وقلما تسنى هذا لكاتب من جيله.
كانت "موسم الهجرة إلى الشمال" حدثًا مدويًا في الرواية العربية وقلما كان لرواية سواها هذا الحظ. لقيت "عرس الزين" حفاوةً حقيقية. لكن الناس ظلت تتحدث عن "موسم الهجرة إلى الشمال".
أما "بندرشاه" ومريود فكانتا روايتين لكاتب "موسم الهجرة إلى الشمال". هل كان الطيّب الصالح كاتب الرواية الواحدة. أم أن الجمهور الذي اقتحمته "موسم الهجرة"، وفجرت فيه تطلبًا جديدًا كان مهيًا لذلك، ولم يكن مهيًا لأكثر منه. لقد سمح لرواية في عنف موسم الهجرة وصداميتها أن تحتل مخيلته، لكنه بالتأكيد وجد فيها جوابًا راديكاليًا. كانت دراماتيكية الرواية تناسب وعيًا تاريخيًا صراعيًا وديناميكيًا أوعزت به الموجة القومية.
أما الروايات التي تلت موسم الهجرة فقد سبقت تقريبًا وعي القارئ. كانت احتفالية وملحمية عرس الزين وسحرية أو فانتازية «بندر شاه ومريود» قفزة أكثر مما يحتمل.
كانتا (الروايتان اللتان كتبتا كجزء من ثلاثية لم تظهر فيها ثالثة) فتحًا روائيًا بحق. ولحظة في الرواية لم تتأخر عن العالم بل وجدت، بدون جهد أو تقصد، فيه، لكن القارئ لم يكن بهذا التطلب. لم يكن مستعدًا لرواية بلا موضوع(2) لكنها كما يدل اسمها (عرس الزين)، نوع من عيد أدبي، من سرد ملحمي لا يتغذى من أي شيء سوى من شاعريته الخاصة، ومن قدرته على إنشاء الواقع وعلاقاته في تشكيل فسيفسائي.
لم يكن القارئ مستعدًا بعد أيضًا لاستعارات كبيرة كالتي في "مريود" و"بندر شاه". إذا كانت لحظة الصراع العنيف قد فتنته في "موسم الهجرة"، فقد فاته أن يلحظ الإنذار القدري الذي فيها والاستحالة التي تنتهي بالاختفاء والغياب وربما العودة إلى مصدر أول خيالي. لقد كان هذا فوق تطلبه.
الأرجح أن المديح الرائع في عرس الزين شاقه، لكنه لم يلحظ ما فيه من هشاشة ومن مصالحة وهمية. لم يلحظ أن كل ذلك يحمل إنذارًا بنهاية عالم ما لبث أن انهار في استعارة رائعة في بندرشاه ومريود. استعارة يخرج فيها الأولاد على الآباء، قبل أن يُسحقوا بين الأجداد والأحفاد. لقد كان كل ذلك، من "موسم الهجرة" إلى "مريود" نوعًا من مرثية توراتية، مرثية عالم يتحول فيه العنف إلى سند روحي قبل أن يغرق في الظلمات وتخرج أشباحه من القبور معلنة انهيار الواقع واغتيال الحاضر.
أصدر "الطيّب صالح" بعد أحدوثته مريود نصوصًا من بينها واحد شبه بيوغرافي "المنسي" لكن الناس والقراء بقوا في خبر نصوصه الأولى، إذ أن هذه النصوص لم تستنفد بعد. لم يصدر الطيّب سوى أربع روايات تقريبًا لكن واحدة منها فحسب، وربما اثنتين في الأكثر، عرفتا قراءة واسعة. كانت القراءة تقل بمقدار تقدم فن الطيّب الروائي.
كانت موسم الهجرة رواية قضية، وربما هنا سر انتشارها. لقد وضعت علاقة الشرق والغرب في سياق عنيف وأمام استحالة، لكنها أوحت بأن امتلاك الغرب مثله مثل العودة إلى الأصل مسدودان. مع ذلك يمكن الآن النظر إلى موسم الهجرة كرواية إيديولوجية. إن لغتها هي لغة حكم ورسالة متقصدة، لكنها ككتاب ادوار سعيد اللاحق عن الاستشراق حملت نقدًا إيديولوجيًا. كان مصطفى سعيد مستشرقًا ضديًا ولم يستطع أن ينزع عنه هذه اللعنة. لكن الطيّب صالح في "عرس الزين" كتب بلغة بلا حكم. لغة ذات شاعرية وإيقاع وتشكيل فحسب. كتب ملحمة ناعمة، وعيدًا لغويًا، ونصًا من شغاف الواقع. كتب منمنمة كبيرة، ولم يعد الموضوع ولا القضية خارج النص أو خارج نسيجه.
أما في "بندرشاه" و"مريود" وقبل أن تصل رواية أميركا اللاتينية فقد أسس فانتازيا عربية.
إذا كانت رواية نجيب محفوظ هي عمود الرواية العربية، فقد كتب الطيّب صالح الرواية المضادة - رواية اللغة والشعر والسحر. لقد كان هذا فوق طاقة القارئ العربي.
هكذا بقي إنتاج الطيّب صالح على قلته غير مقروء كفاية. اليوم نجد هذا الأدب يملك من الأصالة ما يتيح له أن يبقى في الزمن. كتب الطيّب صالح رواية وآثر بعد ذلك أن يكتب أحدوثة. كتب الدراما وبعد ذلك فضل أن يكتب الشعر. كان مقروءًا جدًا وغير مقروء، مشهورًا ومغمورًا في آنٍ معًا، روائيًا كبيرًا، عاطلاً عن الكتابة. لقد كان مقلاً ومع ذلك لم يستنفد، وبهذا المتاع القليل نحلم أن المستقبل سينصفه أكثر من الحاضر، فكاتب في قامته لا يفوته المستقبل.

هوامش:
*نشر المقال بصحيفة "السفير" اللبنانية في 19 فبراير 2009. عباس بيضون شاعر وروائي لبناني معروف، من مواليد 1945، مشرف على الصفحة الثقافية لصحيفة السفير اللبنانية.
(1) لا شك أن الكاتب يقصد بغياب الطيب صالح الأدبي هنا توقفه عن كتابة الرواية والقصة.
(2) "رواية بلا موضوع". التعبير هنا في مقام المدح لا الذم. فهو يقصد بلا قضية أو رسالة آيديولوجية محددة، مثل موضوع الصراع بين الشرق والغرب كما في موسم الهجرة، وإنما هي رواية متحررة من الأطر التقليدية والدوافع الآيديولوجية، فهي عالم كامل بكل ما يحتويه من تناقضات ومفتوحة على كل التأويلات.
ملحوظة: اختيارنا للمقال لا يعني أننا بالضرورة نوافق الكاتب في كل الآراء الواردة، ولكن المقال في جملته مديح عال وقراءة مغايرة وبصيرة لأدب الطيب صالح.

عبد المنعم عجب الفَيا
13 ديسمبر 2022

abusara21@gmail.com

 

آراء