عجلنا الذهبي المقدس !!

 


 

 

المؤسسة العسكرية. هذه البقرة المقدسة، أصبحت بسبب تقديسنا لها خنجراً صدئاً في خاصرة الوطن.
لقد استقرت في وعينا كـ "تابو" يحرم الحديث عنه.
ممنوع اقتراب الوعي من سوره الخارجي أو تصويره بالعقل.
شيء أقرب إلى قدس الأقداس لا يمكن تفسير أفعاله أو التفكير في هويته !. ولذا تقاربه أقلام المفكرين – إذا جرؤ – على وجلٍ وهم يرتعشون خوفاً. يقول لك أحدهم – تقية – بأننا لا نتحدث عن الجيش في عمومه منتقدين، وإنما نقصد قيادته، ثم يردف حديثه الرخو هذا بمقاطع تشبه الشعر يتغزل فيها بمواقف بطولية وطنية متخيلة .. وكأنه يتحدث عن جيش آخر.
الجيش هو الجيش. من أكبر جنرال رتبة فيه، وإلى أصغر مستجد.
فالجيش كمؤسسة بنية متكاملة ..
وفي ذلك هي على شذوذ في تركيبها وتكوينها ... أيضاً !.

2
فرغم خذلان العسكر المتكرر للوطن وشعبه، وخيبتهم، بتقصيرهم المعيب، وتفريطهم اللامسؤول في حدود الدولة وفي صمتهم الذي يدعو للريبة على احتلال اطرافها من الدول المجاورة، ليس فقط من قبل جيوش تلك الدول، بل ومن قبل شراذم مليشيات تغزوه، تقذف بها الرياح من كل فج عميق.
ومن عنجهيتهم الكاذبة، وتسلطهم منذ الاستقلال، واهدار الموارد والأموال التي تُقتطع من حليب الأطفال، وتعليم النشء، وصحة الناس. حتى صاروا العقبة الكأداء الكبرى التي تحول بين الشعب وتحقيق طموحه المشروع في إقامة دولة قوية تحفظ كرامته وكرامة الوطن، وتضمن له حياة مرفهة تليق بإنسانه المتفرد في نبله وطيبته وصبره، حياة تتناسب وخيرات البلاد التي ما بخلت العناية الإلهية عليها بوفرة وثراء وتنوع لا حدود له، في مصادر مواردها الطبيعية، وعلى نحو لم يتح لأمة في الأرض قط.

3
ما الذي برع فيه هذا الجيش منذ أن نال السودان استقلاله ؟.
إنه لم يبرع في شيء سوى الانقلاب على الحكم، حتى أدمن هذه الهواية التي صارت "حرفة"، وأصبح "الحكم" عقيدة راسخة متحكمة في وعي أكبر جنرال إلى أصغر مستجد !.
فشلوا في القيام بوظيفتهم الدستورية بحماية حدود وتراب وأمن السودان، وقفزوا إلى مقاعد الساسة ليحكموا.
فماذا انجزوا فيه ؟.
لا نتحدث هنا عن مسؤوليات السياسي في الحكم عن تنمية البلاد وتوظيف مواردها من أجل توفير حياة كريمة لشعبها، وإشاعة السلام وسيادة القانون وبسط الحريات وحقوق الإنسان، ونشر مظلة من الأمن الشامل لموطنيها.
ولكن دعنا نقف هنا. في حدود ما هو مناط بالجيش وساير الأجهزة الأمنية من مهام وظيفية ومسؤوليات عليه القيام بها إلزاماً، منصوص عليه في أي دستور في العالم. أليست حماية حدود تراب الوطن على رأس مسؤوليات هذه الأجهزة، وأن تسليحها من دواعي هذه المسؤولية، حتى تقوم بواجبها هذا ؟.
أليس الدفاع عن "حدود الوطن والتراب الما ليه تمن" كما صدح المغني، هو على رأس أولويات مهام الجيش والأجهزة الأمنية، حتى في ظل الدولة المدنية، على غرار ما فعل الرئيس عبد الله خليل عندما حاولت الحكومة المصرية احتلال حلايب للمرة الأولى في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، لقد قام رئيس حكومة السودان – المدني آنذاك – عبد الله خليل، "بتوجيه" قائد الجيش" السوداني يومها، بضرب القوات المصرية، إذا لم تنسحب من حلايب فوراً. وبالفعل انسحبت القوات المصرية المحتلة. ونقل حينها عن الرئيس المصري قوله: بأنه لن يدخل في حرب مع السودان بسبب حلايب، ويتجاهل العلاقة الأزلية بين شعبي وادي النيل.
فماذا فعل عسكر الانقلابات في ملف "الحدود والتراب" عندما حكموا ؟.

4
- مع حكم العسكر الأول (عبود، نوفمبر 1958) فقدنا وادي حلفا كله، وتم اقتلاع واحد من أعرق وأقدم الشعوب السودانية من موطنه الذي استقر فيه منذ ما يقارب آلاف السنين. كما طمرت "بحيرة ناصر" المصرية تراث إنساني ثمين ، عبارة عن ثروة وآثار تاريخية ربما ترجع لملايين السنين!.
- ومع حكم العسكر الثاني (نميري، مايو 1969) استعان النظام بالطيران العسكري المصري لقصف موطني الجزيرة أبا معقل الأنصار المدنيين !!.
- ومع حكم العسكر الثالث (البشير، يونيو 1989) تواطأ العسكر بالصمت على احتلال المصريين لحلايب وشلاتين (مثلث أبو رماده). وعلى احتلال أثيوبيا للفشقة مقابل عدم رفع الدولتان شكوى في مجلس الأمن ضد الدولة السودانية، لمحاولة النظام السوداني اغتيال الرئيس المصري في أثيوبيا.
وتنفيذاً لهذيان مهوسون تآمروا لفصل الجنوب وهو ما يعادل ثلث مساحة البلاد، التي لم يبدأ تقسيمها بانفصال الجنوب، بل قبل ذلك بسلخ إقليم بني شنقول، وتسليم جمبيلا غداة الاستقلال دون مفاوضات الى اثيوبيا !!!.
- ومع انقلاب (البرهان، أكتوبر 2022) بلغت الاستهانة بالوطن وبكرامته وبأمنه، أحط ما يمكن أن تنحدر إليه أمَّة تفتح سماءها رحبة لطيرن المحتل الحربي. ثم يحرس جيشها قوافل شاحنات المهربين بمواردها من مواطنين ندبوا أنفسهم، وهم مزارعون، لحماية حدود بلدهم من اللصوص الأجانب الوافدون من الدولة التي تحتل أرضهم !!!!.
- لم يكتفي عسكر السودان بالتفريط في حدود البلاد فقط، بل أوغلوا أبعد من التفريط والفشل والعجز عن استردادها بالقوة أو بالتفاوض، إلى درك التواطؤ مع المحتل، تارة بالصمت، والموافقة السكوتية، وتارة بالاستعانة بالمحتل الأجنبي ضد المعارض في الداخل، لقمعه وقتلة.
ولا أعلم إن كان هناك درك أحط من الخيانة والعمالة يمكن أن تبلغه أي سلطة في العالم !.

5
طالما درجوا على الترويج لانقلاباتهم المتكررة على نظم الحكم المدنية تحت مبررات الحرص على أمن البلاد وخشية انفلاته وتمزق الدولة، وقد ظلت هذه الأسطوانة المشروخة تدار مع كل مارش انقلاب عسكري. بل وتصبح هي المقصلة التي تمر تحتها كل الأعناق التي جرؤ أصحابها على القول: بل أنتم بسياساتكم الرعناء المهدد الأمني الأول.
ليس عليك أن ترجع بذاكرتك إلى التاريخ لتكتشف مدى زيف هذا الادعاء، فواقع الأمن في السودان اليوم كفيل بتعريته تماماً !.
فالسودان في تاريخه لم يتعرض لتجربة من الفوضى الشاملة والإنفلات أمني مثل التي يتعرض لها ويعاني منها منذ الانقلاب.
فحتى عندما تآكلت سلطة مركز الدولة في سنار قبل سقوطها بيد محمد علي باشا حاكم مصر، حيث عمت الفوضى أطراف الدولة، ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه من الفوضى والانفلات الأمني الآن، لتضرب قلب العاصمة وتنتشر العصابات المسلحة في شوارعها نهاراً جهاراً، تمارس الارهاب وتنشر الرعب والقتل والنهب وتقتحم البيوت الآمنة لتقتل وتروع وتنهب.
علماً بأنه رغم تآكل سلطة الدولة في سلطنة سنار الزرقاء وانهيارها، إلا أن الفوضى الأمنية اقتصر نشاط عصابات النهب فيها على طرق القوافل التجارية البعيدة عن مركز السلطة وذراعها الأمنية.
وإذا كان المرء يستطيع أن يتفهم عجزها للتصدي لهذا النشاط بالنظر إلى بدائية طرق التواصل بين المركز والأطراف، فإن الفوضى والانفلات الأمني جنوب دارفور، حيث تهاجم المليشيات الزاحفة عبر الحدود القرى ومعسكرات النزوح، بل وحتى في المدن، لتقتل وتحرق وتغتصب وتهجِّر السكان من مواطنهم لاجئون إلى الدول المجاورة، التي تأتي منها نفس هذه المليشيات، فأمر لم تشهده الدولة السودانية في كل عصورها، بل لم تشهده أي دولة العالم. لن تجد له تبريراً لجيش يقول متفاخراً أنه يصنِّع الطائرات المسيَّرة !.
فعن أي أمن انقلب العسكر على الحكم المدني للمحافظة عليه ؟.

6
الحق انهم أبدعوا أيما إبداع في "خلق" الفوضى، وتفننوا في تنويع مصادر زعزعة أمن واستقرار الدولة، والتعجيل بتفككها وانهيارها. وقد نجحوا في غرس بذرة الفتنة بين مكونات الشعوب السودانية وتفتيت وحدة مؤسساتها المدنية بتفوق ...
إذا كان ذلك يُعتبر انجازاً !.
- تحت أعينهم وهم الحاكمون بأمرهم تناسلت المليشيات واستشرت ظاهرة الجيوش الجهوية، فأصبح للشمالية جيشها الخاص، وللشرق جيشه الخاص وللبطانة أيضاً جيشها الخاص، بينما الخرطوم العاصمة بمساحتها الضيقة تعج بعدد يفوق الثمانية من الجيوش مختلفة الانتماءات، وعسكر كل هذه الجيوش والمليشيات مسلحون بمختلف أنواع الأسلحة. وهناك مسلحون لا تعرف السلطات الأمنية عدد منظماتهم أو هويتهم وأهدافهم، وأصبح الجميع في مرمى نيران قد تأتي من أي ناحية. وما حدث لموكب والي وسط دارفور يوم الجمعة 10 فبراير 2023 من إطلاق النار عليه من عناصر سماها بيان الولاية بـ "المتفلتة"، يعطيك فكرة عن الوضع بأكمله.
ما يجعلك تتساءل بغير قليل من القلق والرعب، بحيرة: وأين هو "الشعب" من المدنيين، الذي تحيط به هذه الجيوش، وكلها تدعي حمايته والدفاع عن الوطن ؟!!.
ضد من يحملون سلاحهم ؟. ومِن مَن يحمون البلاد ويدافعون عن أمنها ؟!.
قد صار لكل ولاية، ومحلية، وقبيلة جيشها المسلح الخاص برتبه العسكرية المختلفة خارج سلطة الدولة.
إن لم يكن هذا تفكيكاً للدولة فكيف يكون التفكيك ؟!!.

ونواصل

izzeddin9@gmail.com

 

آراء