في اطار الحديث عن تعديل الوثيقة الدستورية (4/5): التحديات التي أعاقت الممارسات الدستورية

 


 

 

في مقالنا السابق تحدثنا بالتفصيل عن أهمية التحليل العلمي و الواقعي للفضاء السياسي في سودان ما بعد إزالة دكتاتورية عمر البشير، و تحدثنا عن أهمية تأشير الموضوعات الدستورية المهمة التي يجب أن تشملها اي نقاشات دستورية حول تعديل الوثيقة الدستورية او عرض أحكام دستورية جديدة قابلة للتطبيق و تمنع الالتباس و الغموض، و تشرح العلاقات بين المؤسسات الدستورية خلال الفترة الانتقالية. و بتطبيق مثل ذلك التحليل على الفترة السابقة، يكون من السهل رسم خارطة طريق لما تبقى من الفترة الانتقالية مع توفير ظروف أفضل لنجاح الفترة و إستقراء مسبق للتحديات التي قد تواجه الفترة، و بالتالي العمل على معالجتها.
شهدت الفترة التي سبقت التوقيع على الاتفاق السياسي في 21 نوفمبر، بين الفريق عبد الفتاح البرهان و الدكتور عبد الله حمدوك، صعوبات عديدة، و كان معظمها من الموضوعات المتوقعة، لانها ببساطة، موضوعات دار حولها جدل دستوري و خلاف سياسي، و بالتالي لم تعد من الموضوعات الغير معروفة او مخفية عن الناس، و بالتالي كان من الممكن توفير آليات دستورية بصورة مبكرة لحل تلك المشاكل و تلافي حدوثها.
فيما يلي نتطرق لبعض الموضوعات التي ظلت موضوع جدل و سجال دستوري، دون ان تجد اي استجابة من المؤسسات التي تصنع القرارات الخاصة بمسار التحول الديمقراطي. من بين تلك الموضوعات:
اولاً: مسالة تنظيم الشراكة بين المكون العسكري و المكون المدني في الحكم، و تكوين مؤسسة تنظم تلك العلاقة و تضمن استدامة الحوار المشترك بين الطرفين، و إنشاء هيئة لحل النزاعات و تيسير طرق الاتفاق بينهما. هناك تجربة المجلس الدستوري، التي طبقتها فرنسا في ظل دستور الجمهورية الخامسة، بتكوين مجلس من رؤساء الدولة السابقين و سياسيين و قانونيين بارزين، يمكن الاستفادة منها مع مواءمة الاهداف و طريقة التكوين، مع الحالة السودانية. ان غياب الترتيبات الدستورية المتصلة بجوانب تنظيم العلاقة بين مكونات الحكم العسكرية و المدنية، أسهم بشكل مباشر في تفاقم المشاكل و استمرارها دون إيجاد حلول.
ثانياً: و بصورة متصلة مع النقطة (أولاً) أشارت الوثيقة الدستورية الانتقالية في المادة 11 على ان يرأس مجلس السيادة في الواحد و عشرين شهراً الاولى للفترة الانتقالية من يختاره الاعضاء العسكريون، و يراسه في الثمانية عشر شهرا المتبقية من الفترة الانتقالية و التي تبدأ في السابع عشر من شهر مايو 2021 عضو مدني يختاره الاعضاء الخمسة المدنيون الذين اختارتهم قوى اعلان الحرية و التغييرلمجلس السيادة. و هذا النص جاء معمماً بدون ان يتم تحديد أحكام إجرائية تضمن هذا الانتقال بدون تعقيدات، مع العلم ان النص نفسه تعرض لاحقاً للتعديل الضمني، إذ ان تاريخ السابع عشر من مايو 2021 لم يعد قابلا للتنفيذ بعد ان جاءت إتفاقية جوبا للسلام و عدلت مدة الفترة الانتقالية في الدستور في المادة السابعة بالقول ( تبدأ الفترة الانتقالية من تاريخ التوقيع على الوثيقة الدستورية، و تمدد ليبدأ حساب التسعة و ثلاثون شهراً من تاريخ التوقيع على إتفاق جوبا لسلام السودان). و بهذا التعديل تكون اتفاقية جوبا اضافت المزيد من التعقيد في تفسير النصوص المتصلة بانتقال رئاسة مجلس السيادة من العسكريين الى المدنيين، و فتحت المجال للنزاع السياسي بخصوص تطبيق تلك المواد.
ثالثاً: ناقشت الوثيقة الدستورية موضوع تكوين المجلس التشريعي الانتقالي في المادتين 24 و 25، و لاعتبارات متصلة بمفاوضات السلام في جوبا تم ارجاء تكوين المجلس التشريعي، و ظلت احكام الفقرة 3 من المادة 25 هي التي تنظم ممارسة مهام المجلس التشريعي من خلال اجتماع مشترك يضم مجلس السيادة و مجلس الوزراء. إلا ان هذا النهج أسهم في ان التماهي مع تأجيل تكوين المجلس التشريعي، مما اسهم ايضاً في إختلال مبدأ الرقابة على سلطات الحكم، بعد ان تمركزت كل السلطات في يدي مجلس السيادة و مجلس الوزراء. و لان قوى إعلان الحرية و التغيير هي المسيطرة بشكل كبير على مجلس الوزراء و لها نصف عضوية مجلس السيادة، فبالتالي كانت تتمتع بالحق في المشاركة في إبتدار التشريعات و مناقشتها و إجازتها، و في ذلك لم تكن في حريصة بالقدر الكافي للضغط باتجاه استعجال تكوين المجلس التشريعي، إلا حرصها على إكمال العملية الدستورية و ضرورة إستكمال السلطات الثلاث لمصلحة الاستقرار الدستوري لعملية الانتقال.
أسهم تعطيل تكوين المجلس التشريعي في تعطيل إشراك مجموعات مُعتبرة في عملية إدارة التحول الديمقراطي، و التقليل من فرص استيعاب القطاعات الشعبية الأخرى، لا سيما المجموعات الشبابية و النسوية، التي أبدت رغبة كبيرة في المُشاركة في الفترة الانتقالية، و ظهر ذلك من خلال الضغط من أجل تكوين المجلس التشريعي، كذلك المجموعات السياسية الاخرى الغير موقعة على وثيقة إعلان الحرية و التغيير، التي لم تجد حظها في التمثيل في الفترة الانتقالية مما اضعف رغبتهم في العمل من أجل إنجاح الفترة الانتقالية، بل أن بعضهم عمل على اسناد المكون العسكري و تشجيعه ضد قوى اعلان الحرية و التغيير.
و بدون الترتيب الدستور المُحكم و تنظيم العلاقات الدستورية بين أجهزة الحُكم بصورة تفصيلية و دقيقة، كان من المتصور أن يكون المجلس التشريعي الانتقالي ساحة للصراع السياسي الغير مُجدي الذي كان من المُمكن ان يكون عامل إضافي في تعطيل إنجاز مهام المرحلة الانتقالية.
رابعاً: من المُمارسة السياسية خلال الفترة السابقة للاتفاق السياسي في نوفمبر 2021 إتضح غياب الاحكام الدستورية التي تمنع تغول مجلس السيادة على سلطات مجلس الوزراء، و ذلك المنع كان ممكناً من خلال تحديد المهام التنفيذية بشكل دقيق لمجلس الوزراء، و تحديد آليات للطعن في أعمال مَجلس السيادة. إن المكون العسكري في مجلس السيادة، و في أكثر من مرة، قام بالعديد من الانشطة التي تقع ضمن مهام السلطة التتنفيذية، دون حتى استشارة رئيس مجلس الوزراء، بل حتى دون مناقشة تلك الامور مع المُكون المدني داخل مجلس السيادة. في حقيقة الامر، إن المكون العسكري ظل يتصرف من داخل مجلس السيادة، كانما المجلس هو مجرد لجنة تابعة للقيادة العامة للجيش السوداني، بعد ان تم أغفال دور المدنيين في مجلس السيادة. و في سياق الحديث عن سيطرة المكون العسكري على المجلس، تجدر الاشارةإلى أن رئيس مجلس السيادة قام بتعيين قائد قوات الدعم السريع كنائب لرئيس المجلس السيادة دون وجود سند دستوري لهذا المنصب و دون تحديد مهام دستورية للنائب.
عند التفكير في عمل اي مراجعات دستورية – كما متوقع في القريب العاجل – لاعادة تنظيم العلاقات خلال الفترة المتبقية من الفترة الانتقالية، لابد من إستعادة تلك التجرية و عرضها للنقاش و إخضاعها للمعالجة الدستورية، إذ لا يمكن إنكار إن أغفال معالجة هذا الجانب اسهم بصورة واضحة في ارباك الفترة الانتقالية و الانحراف بها عن أهدافها الموضوعة في الوثيقة الدستورية.
خامساُ: عند الحديث عن الاصلاح الدستوري و الشروع في تحسين مسار التحول الديمقراطي في السودان، من المهم النظر الى وضعية السلطة القضائية خلال الفترة الانتقالية. حسناً فعلت المادة 30 من الوثيقة الدستورية حين اسمتها (السلطة) القضائية، و لم تستخدم عبارة (الهيئة - كما فعل قانون الهيئة القضائية لسنة 1986) في اطار تأكيد أنها أحد اعمدة السلطات الثلاث في النظام الديمقراطي الجديد، و ليست هيئة تابعة لواحدة من السلطات الاخرى. من المهم في سياق تصميم النظام الدستوري الانتقالي، الذي يستهدف بالضرورة الى بناء الديمقراطية و العدالة و كفالة حقوق الانسان، إيلاء دور فعال و قوى للسلطة القضائية في الاضلاع بدورها في حماية التحول الديمقراطي و إقرار العدالة و ضمان الوفاء بمبادئ حقوق الانسان. لقد تعرضت السلطة القضائية الى حالة تجريف متعمد خلال الحكم الدكتاتوري السابق، فافتقرت للكفاءة و القدرة المهنية لمواجهة تحديات الانتقال و الاسهام بصورة فعالة في تحقيق أهداف الامة السودانية.
إن الوثيقة الدستورية لم تقدم معالجات إستثنائية لمسألة إصلاح السلطة القضائية، و تأهيلها بصورة عاجلة للقيام بدورها المطلوب. و بالنظر للاحكام الخاصة بهذا الجانب، نجد ان الوثيقةالدستورية قد جاءت بنصوص مكررة و منقولة من سياقات دستورية مستقرة (اي انها لم تستوعب الحالة الانتقالية). بالنتيجة، ووفقاُ لما هو مشهود، تعطلت العدالة بسبب ذلك القصور في فهم و استيعاب الدور المطلوب من السلطة القضائية في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ السودان، و بالتالي لم تعطي الوثيقة اي أحكام بخصوص إعادة هيكلة السلطة القضائية، و تدريب العاملين في السلطة القضائية وفقاً للاهداف الانتقالية.
و الحديث عن السلطة القضائية يقود الى الحديث عن مؤسسات العدالة كلها، فقد تعطل دور النيابة العامة و بقية أجهزة إنفاذ القانون. و في هذا الصعيد كان من المهم تنظيم و تفعيل دور أجهزة العدالة الانتقالية، و توسيع نطاقها، إذ بسبب ضعف أجهزة العدالة و عدم إيلائها المعالجة الدستورية التي تستحق، برزت النداءات بدعم لجنة ازالة التمكين و تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، بوصفها آلية إنتقالية عملت على اتباع وسائل عاجلة لضمان وقف الفساد و تفكيك مؤسسات الدولة الدكتاتورية، و وجدت مجهوداتها ترحيباً لدى اوساط واسعة، و كان من الممكن تفعيل دورها بعمل المزيد من الاصلاحات في قانونها و اجراءاتها، إلا ان اضطراب المسار الديمقراطي و حدوث انقلاب اكتوبر 2021 اوقف اي حديث ممكن عن إعادة تنظيم العدالة بصورة تنسجم مع متطلبات التحول الديمقراطي في السودان.
و ربما من أهم ما يجب الاشارة اليه هو غياب دور المحكمة الدستورية، بسبب تأخير تكوينها. و في الواقع ما كان يجب ان يتأخر تكوين المحكمة الدستورية، حين كان من المفترض ان تكون هي الحارسة للدستور الانتقالي، و بالتالي كان يجب ان تكون المحكمة موجودة مباشرة بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية. المادة 31 من الوثيقة نصت على تكوين محكمة دستورية بعد إجازة قانونها، و لم تقدم بديلاً يقوم بمهام المحكمة الدستورية الى حين اجازة قانون المحكمة و تكوينها و تعيين اعضائها. و ما كان ممكناً انجازه في اول ايام الفترة الانتقالية حيال تكوين المحكمة الدستورية، اصبح عسيراً بعد تفاقم الخلافات السياسية بين مكونات و مؤسسات الحكم، في فترة لآحقة. و بغياب المحكمة الدستورية اصبحت الرقابة على دستورية القوانين و التصرفات الدستورية غائبة تماماً، و صارت النزاعات الدستورية بدون حل، مما جعل المكون العسكري يقوم باستغلال القوة العسكرية و استخدامها لصالح الحلول و الخيارات التي يراها مناسبة وفق منظوره.
كان من الاوفق – وفق السياق الانتقالي – ان يتم الابقاء على قانون المحكمة الدستورية لسنة 2005 دون تغيير، و الذي لا يوجد خلاف دستوري متميز بخصوص أحكامه، و كان مثل هذا الترتيب ساعد لاحقا في اجراء اي تعديلات ممكنة في قانونها و في تكوينها دون ان يسهم في تعطيل الدور الذي تقوم به المحكمة في حماية التحول الديمقراطي و تساعد في تفسير الاحكام الدستورية و تفصل في المنازعات الدستورية.
سادساً: كنت انوي هنا الحديث عن إصلاح المؤسسة العسكرية كأحد أهم التحديات المتوقعة خلال الفترة الانتقالية، و لم تفلح الوثيقة الدستورية في معالجة هذا التحدي، اذ اولت الفقرة 12 من المادة الثامنة مسالة اصلاح المؤسسة العسكرية للمؤسسة العسكرية نفسها، و هذا لم يحدث و لم يتم رسم استراتيجية خاصة بهذا الاصلاح، و تعطيل هذا الاصلاح سيظل سبباً قوياً في تعطيل تحقيق متطلبات التحول الديمقراطي في السودان. من الانسب ان نتحدث عن هذا الجانب بصورة اوسع في سلسلة مقالات أخرى ربما، و نتعرض له بشئ من التلخيص في مقالي القادم (الحلقة الخامسة من هذه السلسلة من المقالات).
في الختام: إن التحديات الكبيرة التي واجهت مسار التحول الديمقراطي، كانت متوقعة بعد ثلاثين عاما من الدكتاتورية التي دمرت مؤسسات الحكم و رسخت للعديد من المؤسسات القائمة على العديد من القيم و المفاهيم الدكتاتورية و الفاسدة، فبالتالي كان من الصعب ان نتوقع ان تكون مسألة التنظيم الدستوري للمرحلة الانتقالية عملية سهلة او من الممكن ان تكون مستعجلة و مبتسرة مثلما تمت به عملية صياغة الوثيقة الدستورية لعام 2019.
في مقالي الخامس و الاخير في هذا الجانب، نتحدث بصورة مختصرة عن تحديد مدة الفترة الانتقالية بصورة واقعية، و ما هي المؤسسات التي يجب ان تنشأ بخصوص المساعدة في تحقيق اهداف المرحلة الانتقالية، و نختم بملاحظات خاصة بضرورة اصلاح المؤسسة العسكرية، كواحدة من الموضوعات التي ناقشتها الوثيقة الدستورية بدون ان تضع لها حلول واضحة.

advosami@hotmail.com
//////////////////////////

 

آراء