قضايا قانونية مترجمة: الجنون دفاع كامل عن ارتكاب الجريمة: حكومة السودان ضد (م. آ. إ)

 


 

 

عبد المنعم عجب الفَيا
حكومة السودان*
ضد
م. آ. إ /أس/337/1958

خلاصة أسباب الحكم:
(1) يقال عن الشخص إنه لا يدرك ماهية أفعاله إذا كان لا يدرك تداعيات ما يترتب على ما يقوم به من فعل.
(2) يقال عن الشخص إنه لا يدرك خاصية فعله إذا كان يعلم نتيجة هذا الفعل لكنه غير قادر على إدارك فظاعة النتيجة التي يحدثها هذا الفعل.
(3) الشيزوفيرينيا جنون واختلال عقلي بالمعنى الوارد بنص المادة (50) من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925

ملخص وقائع القضية:
المتهم رجل في الرابعة والأربعين من العمر متزوج وله طفلان ولكنه ترك زوجته وابنائه قبل نحو عشر سنوات وجاء للعمل بالجزيرة وكان يعاني من اختلال علقي لفترة طويلة فقد كان مسكونا بوهم أن الناس والأطفال يسيئون إليه وينبزونه بالألقاب حيثما حلّ.
أقام المتهم أولاً بقرية فداسي بالجزيرة ولكنه ظل يتوهم أن الناس في فداسي يريدون قتله. فنصحة أحد كبار السن أن يرحل ويبحث له عن مكان آخر، فذهب إلى قرية تسمى عمر المدني حيث عمل في لقيط القطن. غير أن حالة المس التي تسكنه قد زادت سوءاً. ففي يوم الحادث غادر تلك القرية وضرب هائماً على وجهه إلى أن وصل حلة "فريق العرب" وكان يحمل معه حربة وسكيناً وعلبة كبريت، فاشعل النار في قطية للمدعو محمد عبد المولى، وطعن رجل في الستين حاول منعه من اشعال النار ثم طعن المتوفى بالحربة وعندما حاول المتوفى سحب الحربة منه استل المتهم السكين وطعن بها المتوفى ثم ولى هارباً وأشعل النار في اثنين من القطاطي وتمكن من طعن شخصين آخرين قبل أن تتم السيطرة عليه. هذا ولم تكن تربط المتهم أي علاقة بسكان القرية التي وقع فيها الحادث.
أدانت محكمة كبرى بالحيصاحيصا المتهم بالقتل العمد تحت المادة 251 من قانون العقوبات إلا أن السلطة الاستئنافية (رئيس القضاء) ألغت قرار الإدانة إذ وجدت أن المتهم عندما قتل المجنى عليه المتوفى كان يعاني من الجنون بالمعنى المنصوص عليه بالمادة (50) من قانون العقوبات السوداني وأمرت بإحالته إلى (الحاكم) Governor تحت المادة 284 من قانون الإجراءات الجنائية.
(رفعت أوراق القضية إلى رئيس القضاء للتأييد بموجب المادة 251 من قانون الإجراءات الجنائية السوداني لسنة 1925).

الحكم
24 نوفمبر 1958
محمد أحمد أبو رنّات/ رئيس القضاء:
السؤال الأساس في هذه القضية هو ما إذا كان المتهم مجنوناً حينما طعن المتوفى؟
والجنون كدفاع كامل عن الفعل الجنائي تضمنه نص المادة (50) من قانون العقوبات السوداني لسنة 1925 والتي تقرأ:
"لا يعد الفعل جريمة إذا كان من ارتكبه، لا يملك وقت ارتكاب الفعل، القدرة على إدارك ماهية أفعاله أو السيطرة عليها، وذلك بسبب: (ا) الجنون الدائم أو المؤقت أو الاختلال العقلي أو (ب) تناول مادة مسكرة أو مخدرة بالإكراه أو بدون علمه".
في هذه القضية تهمنا فقط الفقرة (ا) من هذه المادة.
وأرى من الملائم أن أذكر هنا إن قانوننا يختلف عن القانون في كل من إنجلترا والهند، فنحن مثلاً لا نقر بمعيار تحقق شرط عدم علم الشخص بأن الفعل خطأ أو مخالف للقانون. فقد وضعت المادة (50) اختبارين فقط تحقق أي منهما يكفي لدفاع الجنون.
تتحدث المادة عن "ماهية" nature، وماهية الفعل تتضمن بالضرورة quality خاصية الفعل ونوعه. ويقال عن الشخص إنه لا يدرك ماهية أفعاله إذا كان لا يدرك تداعيات ما يترتب على ما يقوم به من فعل.
فالأبله idiot مثلا الذي يطلق النار من بندقية ظانا أنها مجرد لعبة غير مؤذية، يكون غير مدرك لخاصية فعله، إذا كان يعلم النتيجة التي تتبع ذلك الفعل لكنه غير قادر على إدارك فظاعة النتيجة التي يحدثها هذا الفعل. فالأبله قد لا يكون قادراً على إدارك الفرق بين أن تطلق النار على إنسان أو أن تطلقها على حمار.
وكانت المحكمة الكبرى قد أجابت على السؤال: "هل كان المتهم وقت طعنه المتوفى يعاني من الجنون المطبِق أو الجنون المؤقت؟" بالإيجاب.
ولذلك لا أدري كيف خلصت إلى نتيجة مختلفة في إجابتها على السؤال حول ما إذا كان المتهم مدركاً لماهية أفعاله أو يملك السيطرة عليها؟
لا سيما وأن المحكمة قد وجدت أن المتهم يعاني من خلل عقلي بسبب مرض عقلي يسمى الشيزوفرينيا. وهذا يعد دفاعاً كاملاً تحت المادة (50) من قانون العقوبات. وكون أن المتهم مجنون أو غير مجنون في أوقات أخرى فهذه مسألة غير منتجة بموجب نص هذه المادة. وقد ذكرت المحكمة في أسباب حكمها بصفحة 43 بالمحضر: "لقد وصلنا إلى قناعة أن هذا النوع من الجنون يجعل المتهم مسكوناً بهاجس أن الناس يسيئون إليه حيثما حلّ".
لذا أعدِّل الحكم بإدانة المتهم تحت المادة 251 من قانون العقوبات إلى الحكم بأن المتهم قتل المجنى عليه ولكنه في وقت ارتكابه لفعل القتل كان فاقد العقل. وعلى المحكمة أن تحيل المتهم إلى "الحاكم" وعلى الحاكم اتخاذ الإجراءات المنصوص عليها بالمنشور رقم 32 للمحاكم الجنائية.
وهنا أوصي بأن هذا المريض يجب ألا يطلق سراحه من الحبس خشية أن يتسبب في وقوع جرائم خطيرة أخرى.

*هامش:
نُشرت هذه القضية بمجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة 1958 ص 1 ونقلناها من الإنجليزية إلى العربية، فقد كانت المحاكم السودانية تصدر الأحكام القضائية باللغة الإنجليزية حتى سنة 1970.
قررنا عدم كتابة اسم المتهم كاملاً كما ورد بالحكم واكتفينا بالرمز إليه بالحروف الأولى ورقم القضية.

abusara21@gmail.com
//////////////////////

 

آراء