يومياتي قبل الأخيرة

 


 

 

الساعة كانت حوالي الثامنة والنصف صباح السبت 15 أبريل 2023. كنت مستلقياً على كرسي الجلوس في صالة منزلنا الكبير أتصفح وسائل التواصل الاجتماعي و"أمل" أختي الصغيرة ذات الثمانية أعوام (دودة القراءة) تقرأ في إحدى قصص الأطفال التي كنت أشتريها لها لتجبرني على اجترارها لي بعد إضافة بعض التوم والشمار من عندها. أتفاءل لهذه البنت بأن تكون وريثة الطيب صالح. أخوي "أحمد" آخر العنقود ما عارف يعمل شنو، ينطِّط مرة ويقعد جنبي مرة يصر أفتح ليه نشيد أطفال و... ما ارتحت من شقاوته إلا بعد ما رنّ تلفون أبوي، بسرعة أديتو ليهو وقلت ليهو وديهو ليه جري. أبوي كان متكيِّف من الموية الجات الليلة وبغزارة فقرر يسقي الزراعة ويرش الحوش بنفسه. الحمد لله اللي أداني إجازة الليلة. أمي كانت في المطبخ تجهز اللُّقمة بالتقلية تلبيةً لرغبة جدي. يا سلااام، شوف كلمة "اللقمة" دي ومرادفتها (العصيدة) بتتأكل عند كم قبيلة وبتتعمل بكم طريقة؟ ياخ ما قلت ليكم نحن جمالنا في تعدد ثقافتنا؟
فجأة جارتنا (إخلاص) كوركت لأمي: "يا (انتصار) شُفتوا الحصل لينا؟ افتحوا الحدث. ووب علينا من القيامة القامت، الجاتنا تختانا". وقعدت تسَكِّل. أمي جات تجري والمفراكة في يدها عشان تسألها من الحصل لاقاها أبوي جايي جاري من برّه، إطَّقشوا هي وأبوي لما المفراكة وقعت من يدها، ما اشتغلت بيها وجرت لجارتها التي ما زالت تولول. أبوي جاء يكورك: "جيبوا الحدث، جيبوا الجزيرة، مِيَّة مرّة قلت ليكم قنوات الزفت دي ما تفتحوها لينا." البيت كله تنْشن ووقف استاند باي. بعد تابعنا الأحداث في الحدث والجزيرة في سكون المقابر إلا من همهمة جدي: "لا حول ولا قوة إلا بالله. ليس لها من دون الله كاشفة". حَوَّل أبوي للتلفزيون القومي، قناة السودان، قال بغضب: "هسَّع نصدِّق منو؟" ثم رجع إلى الحدث. ظللنا على ذلك الحال ساعات لا أدري عددها. أمي أصرَّت على السفر إلى البلد، أبوي كان مُصِر على الانتظار: "مافي داعي للاستعجال، غُمَّة وبتزول إن شاء الله".
كنا نسمع دوي الرصاص بين الحين والآخر. تعَوَّدْنا على تناول افطار رمضان على (أنغام) الرصاص وناس أمي يجوا جاريين لينا في الشارع عشان يشوفوا الذخيرة التي تضيء السماء وهن يصحن: "ووب علينا، صوتها قرييب". في مرة أبوي زهج فانتهرهن: "لما بتخافوا بتجوا مارقين ليها ليه؟"
في اليوم السابع لمْلمنا بعض الأشياء بسرعة: كل زول 3 أو 4 قطع ملابس (غيارات)، شوية مواد تموينية، القروش اللي كانت في البيت، إلخ... إفتكرنا الحرب أربعة خمسة يوم وتنتهي. عدم الخِبرة مشكلة. بعد كم يوم نُص الحي سافر. جيراننا، ناس "نادية" حبوبتهم قالت ما بتمرق من بيتها إلا جنازة فاضطروا يقعدوا. كانت أمي تتصل عليهم في اليوم الف مرة لتطمئن عليهم. فجأة انقطع خبرهم. الاتصالات كانت معطلة. أمي الهم عايز يقتلها. بعد كم يوم إتذكرت إنه "نادية" عندها شريحة زين . ظلت أيام تتصل ولا مجيب. في الأول كان التلفون يرن ولا مجيب، في النهاية اتقطع الاتصال. قلقنا عليهم. بعد ١٥ يوم اتصلت جارتنا "إخلاص" على أمي وهي تبكي وأخبرتها أن "نادية" داهمهم المرتزقة منتصف الليل وطلبوا منهم اخلاء المنزل وعندما تعللوا بزوجها المريض قتلوه أمام أعينهم. فخرجوا يجرجرون أذيال الخوف وتركوا بيتهم مسرعين بعد أن رفع أحد المرتزقة بندقيته في وجوههم وحذَّرهم إن لم يخرجوا سريعا فسيلحقون أبيهم. إستعطفه ابنهم الكبير ذو ١٧ عام أن يسمح لهم بحمل جثة أبيهم فضربه على رأسه بمؤخرة البندقية (الدبشك) حتى فقد وعيه فجَرَّه من رجليه كالخروف ورماه خارج المنزل. هربوا حتى دون أن يلتفتوا ليلقوا نظرة وداع على أبيهم أو منزلهم. مشوا عدة ساعات على أرجلهم يتخللها وقوف قسري من أجل الجدة والطفلة التي كان يحملها أخوها على كتفه بين الفينة والأخرى. الحمد لله، أخيراً وقفتْ بجوارهم سيارة (دفَّار). سألهم صاحبها: "على وين الخترة آ ناس؟" ردت الأم دون وعي: "محل ما إنت ماشي". ركبوا فتابع القيادة في صمت. كانت الطفلة تبكي وهي تنظر إلى يدها المجروحة ثم تريها لأمها قائلة: "شوفي يا ماما. الراجل كان داير يقطع يدي. شال غويشاتي وسِلْسِلي." وتحسَّست عنقها بيدها الصغيرة. مسحت لها أمها رأسها في صمت وأطلقت زفرةً حرَّى. بعد بضع ساعات أوقف الرجل السيارة أمام منزلٍ متواضع وطلب منهم النزول واعتذر عن تواضع منزله. نزلوا وقضوا يوماً مليئاً بدفء الضيافة وحرارة الاستقبال. طلبت "نادية" في حياء من صاحبة المنزل أن تعطيها تلفونها لتطمئن أهلها واعتذرت بأن الغزاة اقتلعوا حتى تلفون زوجها من جثته. فرحت عندما قابلتها جارتها "إخلاص" في المستشفى. لكن السعادة عمرها قصير. ماتت الجدَّة في اليوم الرابع بدون مقدمات، لم تتحمل مشهد قتل ولدها فلحقت به مع غروب الشمس. في اليوم الخامس شكروا أهل المنزل وأخبروهم بمغادرتهم في الغد إلى قريتهم في الشمالية. أحضر لهم الرجل الطيب سيارة ووضعت (غمتت) زوجته لنادية مبلغاً من المال في يدها وامتزجت الدموع بالأحضان. سارت بهم السيارة قرابة الساعة وفجأة سمعوا صوتاً كأنه الشيطان. لم يشعروا بعدها بشيء. بلغ الخبر الرجل الطيب فأبلغ "إخلاص" التي أبلغت أمي، ولا تسأل عمّا حدث لنا جميعاً عند تلقي الخبر المفجع.
ومرت الأيام مع ازدياد مرارتها، ثم جاء عيد الأضحى. عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدّتَ يا عيدُ؟؟؟
"أحمد" عايز خروف، "امل" سألت أبوي ببراءة ممزوجة بالحزن وقليل من الأمل: "يعني يا أبوي ما حنضحي في العيد دا زي كل مرة؟ هو سمَّوه عيد الضحية ليه طيب كان ما فيه ضحية؟" رد أبوي وهو يداري دمعته: "يا بِتَّي في ضحية بتضحي؟"
لما أصرَّ "أحمد" أبوي قال: "هسع دا يفهَّموه كيف إنه نحن حق الأكل بعد أسبوع ما حيكون عندنا؟ لو ما ناس "علي" أخوي بارك الله فيهم أدّونا الأوضة والصالة ديل كنا بنلقى حق الإيجار اللي بالمليارات دا وين؟ هسع شوية الخضار اللي ببيعها دي وللا ركشة ود "علي" اللي أداها لطارق دي كانت بتسدده لينا؟ والله إلا أشحد وأشحد منو؟ الحال من بعضه." إلتفتتْ أمي إليَّ متحسرة: " عليك الله يا "طارق" يا ولدي هسع كان أبوك خلَّاني شِلتَ دهبي ما كان فَكَّ لينا حيرة؟" نظرت إلى أبي بطرف عيني، فضّلتُ الحِياد فقلت لها بهدوء: "يا أمي كان خايف يشيلوه منك في الطريق. ما سامعة القصص البيحكوها الناس والبهدلة اللي بلقوها في ارتكازات المرتزقة؟"
أمي وزوجة عمي شالوا القهوة والشاي واللقيمات وفاتوا العصر لزيارة جارتهم الجديدة اللي سكنت أول أمس. لما رجعوا قعدوا يحكوا لينا بحسرة ما قالته لهم الجارة من إنهم لما جوا من الخرطوم نزلوا عند أقرباءهم اللي رحبوا بيهم كم يوم، لكن لما شافوا القصة طوّلت إتغيرت معاملتهم فقرر زوجها أن يستأجروا بيتاً مهما كلفهم، وقد كان، ولكن ارتفاع الإيجار المستمر اضطرهم إلى التنقل إلى عدة بيوت. وحكوا لنا عن أشياء كثيرة.
عارفين أجمل حاجة شنو وسط الدمار دا كله شنو؟ إني اكتشفت إنه البلد فيها حاجات أنا ما كنت متخيلها أصلاً. ياخ الناس دي طيبة لدرجة ما تتصورها، والأكل دا زاااتو طعمه ونكهته غير، وللا النوم اللي من بدري. أسكت ساكت، شبعنا نوم.
طبعاً أنا ما زلت مدمن على الواتس والفيسبوك والبركة في النت المجاني وإلا كان أبوي أداني محاضرة في الاقتصاد، ويا ريت، فأنا لو تصدقوا مشتاق بحر للجامعة اللي حيكون أجمل شيء فيها إنه أولادي إن شاء الله حيحضروا تخريجي. في أحلى من كده؟ دا ما الموضوع، الموضوع هو إنه أمي كانت ما بتمشي معانا لحوش ناس عمي عشان تحضر الأخبار، قالت بقت تعمل ليها نفسيات، لكن المشكلة إنها كانت بعد تنتهي من شغلها، أقصد المطبخ، ما خلاص بقى جدولنا ثابت: أُكْلوا، أشربوا، شوفوا الأخبار، نوموا. أها، أمي بعد تنتهي من شغلتها تجي تتكيء جنبي وتصر أوريها الأخبار في الواتس والفيس. خَمِّنوا عشان شنو؟ أييوه. عشان تفش غبينتها بالبكاء لحدي ما يوم قلت ليها: "والله احترت معاك يا أمي، ورّيتك الناس الفرحانين عشان إتلموا بعد ما اتفرقوا بالأيام بكيتي، ورّيتك الناس الماتوا من الجوع ومن المرض بكيتي، حتى القتلوهم كنتي بتدوري وشّك الناحية التانية وما بتعايني ليهم وبرضو بتبكي، كلَّمتك بالإغتصبوهن بكيتي، واللي طردوهم من بيوتهم واحتلوها أو دمَّروها، واللي نهبوا شقاء سنين عمرهم المُرَّة بكيتي.. أعمل معاك شنو أنا؟ خلاص تاني ما بوريك أي شي وجنت على نفسها براقش." مسحت دموعها بكُم فستانها وقالت: "خلاص، آخر مرة". لكن للأسف لم تُوُفي بوعدها ولم تكن آخر مرة فقد سافر أبي مع جدي إلى مستشفى "شندي" لأنه لا يوجد غسيل كلى في بلدتنا الصغيرة. سافر أبي مع جدي وعاد من دونه فقد دُفن هناك. دموعنا لم تجف عندما جاءنا خبر وفاة جارتنا "إخلاص" في المعبر وهم في طريقهم إلى مصر.
فجأة كده، في يوم، الساعة تلاتة صباحاً أبوي قعد يصحِّي فينا واحد واحد ويكورك: "أصحوا. النايمين ليها شنو؟ "إبراهيم" ضرب لي وقال لازم نرجع. يعني الكلام اللي كان بيتقال صحيح. الحرب خلاص، بح." أمي قالت لأمل: أقرصيني عشان أصدق إني ما بحلم؟" ... ورجعنا.
ياخ البلد دي لما أقيف في البلكونة وأعاين ليك للأنوار دي (الخرطوم بالليل)، والعمارات، والطيارات الحاميانا النوم هي وصوت ماكينات المصانع ومولدات الكهرباء والموية وغيرها ما بصدق إنه دي البلد اللي كانت في يوم كوم رماد في تراب. كنت مرات أقرِّب أقول لأمي أقرصيني. ياخ منظر الأولاد والبنات وهم ماشين المدارس والجامعات بالحافلات الحكومية الفارهة يعجبك. والعربات الخاصة دي خليها ساكت، جنس موديلات تحيِّرك عدييل. يا زول البيوت القديمة ديك وناس (شانتي تاون) باي باي، تاني ما تشوفها إلا في الأرشيف. البلد من شمالها لجنوبها ومن شرقها لغربها تخطيط زي التخطيط ونظام ولا أجمل، وللا الصحة؟ تقول المستشفيات وللا المستوصفات وللا الأدوية الراقدة هبطرش ومجانية أو رخيصة؟ وكان للنضافة ديك خلِّيها. الناس بقت راقية وظريفة شديد، العندو قارورة موية أو ورقة حلاوة أو حتى قشرة تسالي ما برميها في الشارع أو من شباك العربية، بيمشي لأقرب سلة نفايات من السلال المنتشرة على طول الشارع ويرميها. عُمَّال النضافة ذاتهم بقوا حايمين في الشوارع ساكت، من شدة ما اشتهوا الشغل الواحد يقرِّب يزغرد كان لقى ورقة طايره أو قارورة واقعة. الناس من كتر الابتسام والسلام يشككوك في نفسك: "يا ربي الزول دا بيعرفني وأنا زهمرت؟"
المغتربين رجعوا. الصورة اتقلبت. العمالة الأجنبية ملت البلد وبقينا نقول "الوافدين" حبابكم عشرة بلا كشرة، حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً. علَّمْنا الباكستاني الشغال في محل الإلكترونيات حق أبوي العربي.
من أين لنا هذا؟ سؤالك في محله؟ قول واحد: الحاجات دي ما جاتنا ليلة القدر ولا أنجزناها بين عشيِّةٍ وضحاها. الحاجات دي دفعنا مهرها دم وزي ما بقولوا أهلنا زمان "قضفنا الدم" حقيقة مش مجاز. أوَّولك يا بادي بدينا بالحكومة وقلنا كده لفِّينا على الهوية الوطنية الموحدة (كلام مسقَّفاتية)، أي لسان جاب سيرة العنصرية إتقطع من لغلوغه. الناس فهمت إنه جمالنا ووحدتنا في تنوعنا. وبعد داك قبّلنا علي رؤيتنا للمستقبل وهدفنا شنو في الزايلة دي؟ يللا قلنا كده بدينا بالاقتصاد: بقينا عضو في الأوبيك، صدِّرنا ليك الدهب دا بالأطنان، والصمغ العربي، والبرسيم، والبصل، والسكر، والقنقليز، والـ... والـ... وما دايرين دقيق فينا قمحنا كتير بكفِّينا. وما تنسى البِنْية التحتية، وقعنا ليك فيها تنمية في كووول البلد وبالتساوي كمان عشان تاني ما تكون في نِقَّة همّشونا وما همّشونا. دا كووله لو ما الشباب شمَّروا سواعد الجد وقدّموا الأفكار النيرة والاختراعات الرائعة ما كان حققناه وكان الترابة دي في خشومنا.
ما قلت ليكم لو ما انشغلنا ببلدنا وتطويرها وخلِّينا الشوبير والعيش تحت أطلال الماضي وياما كنا وما كنا ونحن اللي بنينا الدول دي ونحن اللي علمناهم (ونحن ونحن الشرف الباذخ) ما كان عملنا العملناهو؟
تصدقوا أول مرة إكتشف إنه نشيد العلم دا رااائع لدرجة قف تأمل كده. أول مرة استوعب كلماته:
نحن جند الله جند الوطن إن دعا داعي الفداء لم نخن
نتحدى الموت عند المحن نشتري المجد بأغلى ثمن
هذه الأرض لنا (تحتها خطين بالأحمر) فليعش سوداننا علماَ بين الأمم
بحب النشيد دا بالرغم من تعبي من تصحيح بعض الأخطاء لإبني الذي يصر على أن يقول مثلاً: "عالماً بين الأمم."
بقيت كل يوم لما أودي ولدي المدرسة إنتظر جنب العربية قريب الساعة وأول ما أسمع حناجر التلاميذ تصدح بنحن جند الله حتى اعتدل في وقفتي وأضع يدي فوق قلبي وأردد معهم بأعلى صوت: "نحن جند الله..." في الأول إفتكرت الناس حيقولوا مجنون. يوم سمعت حركة على يساري، لما انتهيت التفت ببطء وحذر. فوجئت بثلاثة رجال وامرأة يفعلون مثلي. اليوم صرنا فصل كااامل (من منازلهم) خارج سور المدرسة وبقت صداقة وقرابة ونكسب الودين. بعد المدرسة انطلق للعمل. إتأخر شنو يا عمك؟ أولاً الشركة حقتي، وأنا أول زول منضبط، ثانياً: إنت قايل الشارع بيأخرك زي زمان؟ قايل الشارع عرضه ربع متر وطوله مترين غير الحفر والمطبات والمويات والزحمة وتييت تييت تصدعك اليوم كله وكواريك ونَبَذ وشتايم ومنو العلَّمك السواقة والرخصة دي جبتها من بيتكم، والشارع حقي، إلخ...؟ ويين يا؟ دا كان زمان وجبر. هسع الشارع الجُوَّه الحِلة تحلف تقول (هاي ويي) وأنواره مولللعة نُصَّت نهار، الضَحى الأعلى، وشرطي المرور كان عينك رمشت تلقاه قدامك، دا غير الإشارات الالكترونية وهلمجرا، قال ليك شغل نضيف. اليابان بس. ياخ دي بلد بتتفات وللا بتتباع؟

duria2004@yahoo.com

 

آراء