التأخر اللغوي وعلاقته بصعوبات التعلم اللاحقة

 


 

 

" شويه سيكولوجي 27 “
talbeely@gmail.com

Language Delay and its relevance to Future
Learning Disabilities
اللغة هي سلاح العقل ووسيلة نموه وتطوره واستمراريته ، وهي ايضاً وعاء الفكر ووسيلة التعبير عنه وعن ما يصاحبه من احاسيس ومشاعر وعواطف وتخيلات وتصورات .. وكذلك فان اللغة هي وسيلة تواصلنا وتخاطبنا مع الاخرين ومع العالم من حولنا ، سواء بالكلمات المنطوقة او المكتوبة ، وعبر الحكاية والرواية والقصيدة المنظومة الكلمات ، وكذلك عبر لغة الاشارة والايماءات لمن لا يستطيعون الكلام .. وباللغة نبحث عن المعرفة Knowledge ونتحصل عليها ونمحصها ، ونتواصل بها لفظياً وعملياً. وقد قال نعوم شوميسكي Noam Chomsky (1975) عن اللغة أنها " مرآة للعقل بعمق ودلالة":
“Language is a mirror of the mind in a deep and significant sense”
وليس ادل على مركزية اللغة في حياتنا اكثر من اننا حتى في تناولنا لأفكارنا واحاسيسنا ومشاعرنا داخل عقولنا ، نتناولها عبر اللغة حتى وكأننا نكاد نسمع انفسنا .. وعلى الرغم من ان البشر يتواصلون مع بعضهم البعض بطرق متعددة ومختلفة ، الا انه لا جدال في ان اللغة بأشكالها المتعددة هي الوسيلة الأساس في التواصل بين البشر فكرياً واجتماعياً.
منذ اللحظة الأولى التي يعلن فيها الطفل الوليد عن خروجه الى الدنيا بصرخة الميلاد المجلجلة ، يكون أساس تواصله مع العالم قد بدأ .. ويعتقد الكثيرون من الآباء والامهات والأطباء والمعلمين أن الكلام Speech يتم اكتسابه بسهولة ودون جهد ، شأنه في ذلك شأن المهارات الحركية التي تكتسب بالنضج البدني .. فكما يتمكن الطفل من الجلوس والحبو في حوالي ستة اشهر من عمره ، فان من المتوقع ان يتمكن من الوقوف والمشي في حوالي شهره الثامن عشر (مع الاحتفاظ باستثناءات القاعدة بالطبع). وفي ذات الوقت تقريباً ؛ أي حوالي سن الثامنة عشر شهراً ، يتوقع من الطفل أن يبدأ الكلام. ولكن ما يجب أن يعرفه الناس هو أن مهارات الطفل النامي الحركية كالجلوس والحبو والمشي مهارات ترتبط في المقام الأول بالنضج البدني البيولوجي ، في حين أن اكتساب اللغة يرتبط إلى جانب ذلك بالبيئة والمحيط الاجتماعي والثقافي الذي يعيش فيه ، ولا نحتاج للتأكيد على أنه حتى الشعوب تتباين في سرعة اكتساب اطفالها للغة وحجم حصيلتهم اللغوية عبر مراحل الطفولة والنمو ( قارن مثلاً بين الحصيلة اللفظية لطفل الثالثة المصري مع نظيره السوداني !).
وإذا ما اتينا الآن لموضوع التأخر اللغوي Language Delay ، نشير إلى اتفاق العديد من السيكولوجيين وأطباء الأطفال والمختصين باللغة ومشكلاتها على ان هنالك قدر من المرونة والتباينات فيما يتعلق ببدء الكلام لدي الطفل ( ويلاحظ الآباء والأمهات التباينات في مواقيت بدء الكلام ما بين أطفالهم ، وخاصة ما بين الطفل الأول والثاني) .. وعلى الرغم من هذا الاتفاق ، فان الاكاديمية الامريكية لأطباء الاسرة مثلاً American Academy of Family Physicians تؤكد على ان تأخر اللغة والكلام يكون حادثاً اذا ما اظهر الطفل نمطاً من النمو من الأنماط
التالية:
• لا تظهر لديه أصوات المناغاة Babbling في سن 15 الى 18 شهراً.
• لا يفهم الكلمات البسيطة مثل لا No وتعال Come وتوقف Stop في سن 18 شهراً.
• لا يستطيع التحدث بجمل قصيرة في سن ثلاث سنوات.
• لا يستطيع ان يحكي قصة بسيطة في سن 4 الى 5 سنوات.
وفيما يتعلق بأسباب تأخر الكلام والتأخر اللغوي اللاحق ، فانه لا يوجد اتفاق راسخ بين المختصين على أسباب بعينها ، ولكن هنالك العديد من النظريات ، ونذكر منها هنا على سبيل المثال نظرية Battin and Haug (1968) والتي يؤكدان فيها على ان الكلام واللغة وظائف متعلمة Learned functions ، ولذلك فان هنالك شروط لا بد من توافرها ليتم هذا التعلم ، وان لم تتوافر فان ذلك يكون سبباً أو اسباباً لتأخر الكلام واللغة ، وهذه الشروط هي : درجة كافية من الذكاء ؛ قدرة كافية على السمع ؛ كفاء وصحة ميكانيزمات الكلام ؛ درجة متوسطة فأعلى من الذاكرة السمعية والقدرة على الانتباه ؛ الخلو من الامراض المزمنة ؛ الخلو من إصابات الدماغ والمخ ؛ الاتزان العاطفي. وتضيف الاكاديمية الامريكية لأطباء الاسرة الى قائمة Battin and Haug الأسباب الاتية لتأخر الكلام واللغة : ثنائية اللغة المتكلمة في منزل الطفل Bilingualism ؛ الولادة المبكرة جداً ؛ الحرمان النفسي الاجتماعي ؛ التوحد Autism ، ان يكون الطفل تؤاماً Twin ؛ الشلل الدماغي واصابات المخ ؛ تأخر النمو عامة ؛ الحبسة الإستقبالية للكلام Receptive Aphasia ؛ الصمت الاختياري Elective Mutism ؛ والتهابات الأذن الوسطى Otitis Media.
وعلى الرغم من أهمية وضع اعتبار مقدر لهذه القوائم من أسباب تأخر الكلام واللغة ، فلا يجب ان ننظر اليها بانها حصرية أو قطعية ، فللتأخر الكلامي واللغوي ارتباطات عديدة ومتشعبة ، ونذكر منها هنا :
- نوع الجنس Gender : فالتأخر الكلامي واللغوي يشيع بين الذكور أكثر من الاناث في ذات المرحلة العمرية ، وبفارق دال احصائياً.
- العوامل الوراثية Genetics : فالعديد من الدراسات تشير الى ارتباطات وراثية لتأخر الكلام واللغة في العديد من الاسر.
- التفضيل اليدوي Laterality/Handedness : ويقصد بها إذا ما كان الطفل أيسر أم أيمن في استخدامه ليديه .. فحيث ان هنالك ارتباط ما بين التفضيل اليدوي ومنطقة بروكا في المخ Broca’s Area وهي منطقة ذات صلة بذاكرة اللغة ، فان فكرة وجود ارتباط ما بين تأخر الكلام واللغة والتفضيل اللغوي تصبح ممكنة ، وربما منطقية.
- ظروف الحمل والولادة Prenatal and Perinatal Circumstances : فالاضطرابات والامراض المتعددة اثناء فترة الحمل قد تؤدي مختلف المشكلات لدى الجنين المتكون ، وكذل فقد ثبت أن التأخر الكلامي واللغوي يشيع بنسبة عالية بين الأطفال الذين ولدوا مبكراً عن موعد ولادتهم بزمن كبير.
- حجم العائلة وترتيب ميلاد الطفل في الأسرة Family Size and Birth Order : فقد أكدت العديد من البحوث والدراسات أن العائلات الكبيرة الحجم قد يقل فيها التواصل اللغوي مع الأطفال (وفي اعتقادي أن العائلات الضخمة في الدول الشرقية والعربية ، ومنها السودان ، يسود فيها التفاعل اللفظي واللغوي وقد لا تنطبق عليها نتائج الدراسات الغربية). ومن ناحية ترتيب الميلاد في الأسرة ، فيلاحظ أن الطفل الثاني أو الثالث إلخ يجد امامه طفلاً أو اطفالاً يتفاعل معهم فتزداد سرعة التقاطه للغة مقارنة مع من سبقوه.
أما فيما يتعلق بالعلاقة ما بين التأخر الكلامي واللغوي من ناحية والصعوبات اللاحقة في التعلم ، نشير إلى أنه من المنطقي ان نفترض أن الطفل الذي لم يتمكن من الكلام واللغة حتى وصوله إلى سن الالتحاق بالمدرسة سيعاني من صعوبات في التعلم .. وتشير العديد من البحوث والدراسات إلى وجود ارتباط Correlation ما بين التأخر الكلامي واللغوي وصعوبات التعلم لاحقاً ، ولكن .. يجب علينا أن نتذكر ان الارتباط لا يعني السببية Correlation does not imply causality فوجود ارتباط احصائي بين متغيرين لا يعني بالضرورة أن احدهما قد سبب الآخر ، فكليهما قد يكون سببهما متغير آخر ، وبالتالي ليس لنا أن نقول أن المتأخر كلامياً ولغوياً سيصعب عليه التعلم لاحقاً حتماً
( ولا شك في أن القارئ يعلم عن أطفال من الأقارب او المعارف قد تأخروا في الكلام واللغة ربما حتى تجاوزوا الرابعة أو الخامسة من العمر ، ثم انطلقوا لغويا بعد ذلك ، بل منهم من تفوقوا اكاديمياً). ومن ناحية أخرى نشير إلى أن مناقشة وتمحيص نتائج الدراسات الارتباطية قد أوضحت ان الارتباط ليس ارتباطاً خطياً Non-linear correlation وان عوامل أخرى تسهم في حدوث صعوبات التعلم
(العوامل البيولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية) ..
إذن ، ماذا على الأسر التي لديها طفل من الواضح والبائن ، أو يشك في أنه متأخر من حيث الكلام واللغة أن تفعل ؟!
- بداية عليهم عدم الاستعجال في الحكم وتذكر أن هنالك درجة مقدرة من المرونة والتباينات في معدل سرعة اكتساب الأطفال للكلام واللغة.
- كل طفل ينمو ويطور مهاراته بمعدله الخاص ، وكل طفل مختلف عن الآخر ، ولذلك يجب تجنب وضع من سبقوه من أطفال الأسرة أو انداده كمعيار له.
- الكشف الطبي الشامل للتأكد من خلو الطفل من مشكلات في السمع وميكانيزمات الكلام والتهابات الاذن الوسطى ، وكذلك خلوه من الامراض والاصابات الدماغية والامراض المزمنة ، وخلوه من اضطرابات طيف التوحد والاضطرابات النمائية الاخرى.
- إذا ما كان الطفل وحيداً أو منعزلاً ، فيجب ترتيب تواجده مع أطفال اخرين من الأقارب أو الجيران أو بإلحاقه بالروضة أو المدرسة .
- استشارة اخصائيو الكلام واللغة Speech Therapists.
هذا ، والله أعلم ..
* للمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع ، راجع (* باللغة الإنجليزية) :
Albeely, T. (2003) Speech and Language Delay and its relevance to Future Learning Difficulties. Journal of Nile Basin, Vol.3, PP 34-57, Alnailain University, Khartoum, Sudan.

 

 

آراء