في وداع رجل ينتمي إلى غير هذا الزمان!

 


 

 




أربعون يوما مضت على رحيل النطاس البارع والأب الروحي لاطباء النساء والتوليد في السودان البروفيسور فاروق عبد العزيز، لكن ذكراه لن تموت أبداً وستظل باقيةً في قلوب محبيه وطلابه المنتشرين داخل وخارج السودان.  لقد كان بروفيسور فاروق رجلاً من طراز نادر ومن طينة مختلفة،لذلك كان من الطبيعي أن يفتقده الكثيرون بدءا من أسرته الصغيرة وعائلته وحتى مجتمعه الطبي الكبير الذي رهن حياته من أجله وقدم له كل ما يملك سعيا الى رفعته وتطوره وتقدم المستوى المهني لكافة المنتمين اليه.. رحل البروفيسور فاروق وعارفي فضله يتحسرون على غيابه في وقت ادلهمت فيه الخطوب على القطاع الطبي بكامله وارتفعت شكاوى المرضى لنقص الدواء وضعف التشخيص وقلة الخدمات وارتفاع التكاليف التي أثقلت كاهل المرضى وذويهم ، وهو الرجل الذي نذر حياته لتخفيف الام المرضى وتقديم العون والسند للمعوزين ، و كان يرجى ليوم كريهة وسداد ثغر،  ولكم تصدى لمثل هذه التحديات برباطة جأش وصبر وتأن وانحياز الى عامة الناس، تلقيت عشرات الرسائل ممن احزنهم فقدك يا فاروق لكنهم جميعا يقبلون بقضاء الواحد القهار ويبتهلون الى الله العلي القدير أن يتقبلك  في الجنات العلى ولسان حالهم يقول: لا نقول الا ما يرضي الله العلي العظيم وله الامر من قبل ومن بعد.
فقد جمع البروفيسور فاروق نبل الخصال وعظيم الفضائل والإخلاص لمهنة الطب ولزملائه وأهله ووطنه، فقد وضع الأساس المتين  لعدد من كليات الطب ولم يكن همه الكسب المالي أو المجد الاجتماعي، فظل يساهم من ماله الخاص في انجاح تلك المشروعات وتلك مشيئة الله في خلقه فقد حببه الى فعل الخير وحبب فعل الخير له، ووهبه من المال ما اغناه  عن انتظار عون الحكومات ومساعدة المنظمات حتى أصبحت مشروعاته تلك عنوانا لمنظمة خيرية كبرى كان يديرها بلا ضوضاء ولا إعلام ولا حديث، وفي نكران ذات وتجرد ندر مثيله في زماننا هذا. كان قويا في غير غلظة ومرنا في غير ضعف فقد كان منهجه القوة الناعمة التي تمكنه من انجاز أعظم  المهام في لطف يليق بالعلماء والعارفين.
ظل ينتقل من إنجاز علمي وطبي الى انجاز اخر ولم يتوقف أبدا في أي من محطات الفشل الكثيرة التي أقعدت السودان ومؤسساته الطبية المتعددة في عددها والقليلة في عطائها وفعلها. كنت أشعر دوما بالفخر والاعتزاز بتفرد وتميز عطاء البوفيسور فاروق الى أن فاجائني ذات يوم برغبته في الاستقالة من العمل بمؤسسة حمد الطبية، تلك القلعة الطبية التي طالما حلم الأطباء بالعمل فيها ورضخت زوجته الدكتورة امال أبوبكر، مديرة ادارة طب الطفولة والامومة بمؤسسة حمد الطبية الى رغبته وهو يحزم حقائبه عائداً الى كلية الطب بجامعة الأحفاد لأن جمعا من طالباته وزملائه كان حلمهم أن يعود البروف إلى تلك المؤسسة التعليمية الأولى والرائدة على مستوى السودان والعالم العربي.
واستجاب البروفيسور فاروق الى نداء بناته الطالبات وزملائه الأساتذة ليضيف الى ماثره المعروفة موقفا  نبيلا جديدا، لا يقدم على فعله الا الرجال الشجعان ممن يخلصون الى المهنة والوطن وحقوق الاجيال المقبلة من الاطباء.
ومع كل تلك النجاحات  لم يقدم البروفيسور فاروق نفسه بطلا أو زعيما أو قائدا وهو الملك المتوج الذي يملك كل مقومات الزعامة والقيادة والتفرد، و هو إذ يفعل انما يقدم درسا بليغا الى من لا يملكون عشر معشار ما للرجل من المواهب والقدرات والانجازات، ومع ذلك يزحمون الافاق بضجيجهم وصياحهم وهم يتقدمون الصفوف ويتصدون للقضايا الخطيرة بلا معرفة ولا دراية ولا مقدرات. كما قدم البروفيسور فارق درسا لمن اقتحموا مهنة الطب الانسانية النبيلة واحالوها الى سوق للنخاسة ومعبرا لجمع المال وبناء السؤدد والشرف ودونهم في تحقيق ذلك دموع الثكالى والام اليتامى وأحزان الارامل وانين المرضى والجرحى والمكلومين.
كان البروف من العناصر الوطنية الأصيلة ووهب كل حياته لخدمة تطور وريادة طب النساء والتوليد في السودان، أسس عشرات المستشفيات المشهورة وقدم الدعم المالي والفني والمنهجي للكليات الوليدة والمستشفيات الناشئة ومدارس القابلات المنتشرة في السودان. خصص وقته بلا من ولا سلوى ولم يطلب العون من احد وهو يضع لبنة من لبنات طب النساء والتوليد او يعيد البسمة لام مريضة او ظفل يوشك ان يعتصره المرض وهو لا يزال يافعا في مهد الميلاد.
كان رجلا من طراز نادر فقد أغلق عيادته الشهيرة في قلب الخرطوم وأسر الى زوجته الاستشارية في طب الامومة بأن ضميره منقبض بسبب نفر غير قليل من المرضى يفدون الى عيادته يدفعون تكاليف قيمة مقابلة الطبيب وفي النهاية تتقاصر يدهم عن دفع ثمن الدواء او اكمال التشخيص واتمام العلاج، وأصر على ان المال الذي يدفعونه حرام، معتبرا ان المريض ان يدفع المال ليتداوى لا للاكتفاء بمقابلة الطبيب. هذه الومضة الاخلاقية الرفيعة نزفها للمتطاولين اليوم في عالم الطب ممن ظنوا ان النجاح هو قدر ما تجنيه من مال ، لا ، ان النجاح هو قدر ما تعطيه للمهنة الانسانية وللناس ، عامة الناس من غير تفضيل.
رجل بمثل هذا النقاء وهذا التجرد وهذا الاخلاص الفريد ، شق على أن ينعيه اتحاد الاطباء على عجل والا يتوقف لحظة لاستلهام شيء من عظمة ذلك الراحل الفريد في زمن ازدادت فيه الحاجة الى الوفاء وتقدير تلك النماذج  من الوطنيين الاخيار المخلصين لوطنهم واهلهم ومرضاهم.  
كان بروفيسور فاروق من قلة قليلة من الرواد الذين يجمعون المال لينفقونه من أجل الوطن واليوم اتى من بعدهم  من يجد ويجتهد ليحيل المؤسسات والمستشفيات العامة الى الى مؤسسة خاصة يملكها كما يملك الناطور مزرعته الصغيرة، ويسيطر على ما هو ملك الشعب ليصبح ملك لنفسه وهواه وطموحاته التي لا تنتهي!.
وعندما أزفت لحظة الرحيل لم يرد البروفيسور فاروق أن يزعج الاخرين بما لحق بقلبه الكبير من إعياء ورهق فأسرع الخطى الى الدوحة، ليس بحثا عن العلاج ولا سعيا الى ما يسرع اليه عامة الناس، بل ليلتقي أقرب الناس اليه ممن أسند اليهم حمل لواء  مهنة الطب النبيلة وفي مقدمتهم  زوجته الدكتورة امال أبوبكر، وابنته الطبيبة شيرين فاروق ، التي سارت على خطى والدها واكتسبت مكانة مرموقة بمستشفى النساء والتوليد بمؤسسة حمد الطبية خلال سنوات قليلة لتصبح سفيرة سودانية بوسام رفيع وهي ترث خبرات والدها الطبية الثرة وتوظفها في خدمة مرضاها.
وفي اخر لحظة في حياته أضاف بروفيسور فاروق الى ماثره تلك ماثرة جديدة حين عرضت عليه زوجته السفر الى المانيا لتكملة العلاج،سيما وان اجراءات السفر والعلاج قد اكتملت ، لكنه أصر على العودة الى الخرطوم وقال لها في رفق ليس قبل تكملة العام الدراسي وتخريج  هذه الدفعة من الطبيبات الجدد.
رحل الرجل الخلوق والعالم العارف والنطاس البارع، رحل البروفيسور فاروق في صمت العلماء وهدوء الحكماء وعفاف الأتقياء ونقاء الشرفاء.
وقد  ودعت  جامعة الأحفاد العالم الجليل البروفسر فاروق عبدالعزيز  وداعاً حزيناً لفقدها أحد أعمدتها التى بُنيت عليها مدرسة طب الأحفاد ونعاه البروفسر قاسم بدري باعتباره من رواد منهج مدرسة طب الأحفاد في العام 1987م وكان حينها مسئولاً عن مركز التعليم الطبى بكلية الطب ثم صار عميداً لمدرسة طب الأحفاد فى العام 1992م. و لقد سار بها نحو النجاح والتفوق فانتشرت خريجاتها للعمل بجدارة داخل وخارج السودان. وذرفت طالباته الدموع في موكب تخرجهن لما يعلمنه من ماثر الرجل وافضاله عليهن وعلى مهنة الطب ودارسيه.
واليوم وقد مضى الرجل الفريد بروفيسور فاروق فانني أهمس في أذن شقيقه العميد صديق عبد العزيز وهو البعيد قسراً عن الوطن،  أن يخلد ذكراه بمؤسسة طبية طوعية ويقيني أن أصدقاء الفقيد سيتسارعون الى تمويل هذه المؤسسة الوليدة ، حيث أن أفضل ما نقدمه لكل عزيز نفقده أن نكمل ما بدأه من أعمال جليلة.
إن السودان اليوم  اكثر ما يكون حاجة الى امثال القيم التي أرساها الفقيد الراحل خاصة في المجال الطبي الذي يوشك ان يتحول الى بزينس تجاري لا يعترف الا بلغة المال وها هو قسم أبقراط يوشك على السقوط إن لم يكن قد سقط بالفعل.
لقد مضى بروفيسور فاروق وهو يعلم أن هذه الدنيا ليست بدار غرار لذلك لم يجهد نفسه الا في عمل الخير والاكتناز لغد كان يرجوه ، واخرة كان يدرك أنها الحق والمنتهى والمصير.. رحمه الله رحمة واسعة والهم اله وذويه الصبر الجميل وفي مقدمتهم العميد م صديق عبد العزيز بلندن ، وزوجته الاستشارية امال ابوبكر وابنائه عزيز وابوبكر  وبناته الدكتورة شيرين وتيسير وعارفي فضله من الاطباء والعاملين في القطاع الطبي داخل وخارج السودان، انه سميع مجيب.


abdalmotalab makki [talabmakki@gmail.com]
///////

 

آراء