قدر الأمم ومصيرها يبدأ من الفصل الدراسي، طموحات ما بعد الحرب – الجزء (5)

 


 

 

استراتيجية لإصلاح التعليم في السودان تماشياً مع شعارات ثورة ديسمبر 2018
بقلم
الدكتور أحمد جمعة صديق
جامعة الزعيم الأزهري - جامعة الخرطوم
(الجزء الخامس)
الموضوع الاول: فسلفة التعليم
مقدمة: قدر الامم ومصيرها يبدأ من الفصل الدراسي
تُحاك مصائر وأقدار الأمم داخل جدران فصولها الدراسية، حيث تُبذَر بذور التقدم والازدهار. وفي قلب هذه العملية التحويلية يقف المعلمون،ك(مهندسين) للسلوك البشري. ينطلقون في رحلة نبيلة، يوجّهون خلالها عقول الشباب نحو التنوير الفكري والعافية البدنية والنمو الروحي. ولو تأملنا - في هذا السياق - التأثير العميق للمعلمين على تطور الأمم، لادركنا دورهم كمحركات للتطور والتقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في كل بلاد الدنيا، ولكن هذا الدور الفني للمعلم في (هندسة) افراد المجتمع يقوم على بعض الاسس، وسنفرد لها حيزاً في مقالنا هذا والمقالات القادمة ان شاء الله.
مشاكل التعليم كثيرة في السودان، منها المشاكل الادارية في المناصب العليا المناط بها ادارة العملية التربوية برمتها. وأهم هذه المناصب هو منصب الوزير وهو منصب سياسي في المقام الأول بينما المتوقع أن يكون منصبا فنياً يشغله اختصاصي في علوم التربية وبالضرورة أن يكون صاحب خبرات في مجال التدريس والمناهج حتى يستطيع أن يتحدث لغة قبيلة المعلمين وعشائر الطلاب. وقد لاحظنا ان هذا المنصب يشغله في معظم الأحيان أشخاص ليس لهم علاقة مباشرة بالتعليم من قريب أو بعيد. ومنهم من يجهل المصطلحات العلمية والعملية المتداولة في هذا المجال. فربما يجهل الوزير الفرق بين اختبار التحصيل واختبار القدرات وربما لا يعلم المقصود من صدق المحتوي في المنهج وفلسفة ومبادئ ونظريات التعلم والتدريس.
التعليم يا سادتي مهنة كالطب والهندسة والفلاحة وجميع المهن الاخرى ولذلك ينبغي على من يكون على رأس هذا الجهاز الالمام بالمفردات والمصطلحات حتي يستطيع ان يفهم ويفهم. وليس الالمام بالاطلاع والقراءة، لا، مع ان ذلك ممكن ولكن بالمعايشة الفعلية لكل مراحل العملية التعليمية والتربوية داخل اسوار المدرسة وداخل الوحدة الدراسية الصغيرة التي نتعارف عليها باسم الفصل الدراسي. لابد للوزير ان يكون ممن كابد هذا العناء الجميل مع الطلاب والمديرين والمدرسين حتى تأتي احكامه من واقع التجربة وليس من واقعه التنظيمي او السياسي المحض.
وهناك الكثير من مشاكل التعليم منها ما يتعلق بتدريب المعلمين والمناهج والتقويم الدراسي وخلافه وهذه سنفرد لها مقالات بالتفصيل في الحلقات القادمة ان شاء الله. بعض هذه المشاكل ادارية وفنية كما قلنا ولكن هناك بعض المشاكل تتعلق بالمفاهيم والتوجهات وهي المشاكل الفلسفية لمفهوم واهداف التعليم. كما ان هناك مشاكل تتعلق باقتصاديات التعليم والتخطيط التربوي. هذه المواضيع لم تجد نصيبها من الدراسة مع انها جوانب تؤسس للعمل التربوي والتعليمي في البلاد. واليوم في هذه العجالة سنتحدث عن فلسفة التعليم واقتصاديات التعليم ولاحقا سنتحدث عن التخطيط التربوي. وسيكون الحديث للفت النظر الى أهمية هذه الفروع من المعرفة. وحديثي سيكون من باب ذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين، اذ ان هذا المجال ليس اختصاصي ولكن فقط لاحظت افتقارنا الى متخصصيين في هذه المجالات. وسنبادر هنا بالتوصية باقتراح بتفعيل برامج اكاديمية على مستوى الدبلوم والماجستير والدكتوراه لتأهيل متخصصين في هذا المجال. واقترح ان تتولى وزارة التربية والتعليم البرنامج بالتعاون مع بعض الجامعات كجامعة الخرطوم والجزيرة للشروع فوراً في هذا الامر حتى نملأ هذا الفراغ بمجموعة من الفنييين يتحدثون هذه اللغة ويفهمون معاني واهداف هذه المصطلحات.
• المدارس الفلسفية للتعليم
هناك أربعة مدارس فلسفية يرجع اليها حالياً في إعدادات التعليم: وهي الفسلفة الجوهرية، التاريخية، التقدمية، وإعادة بناء المجتمع الاجتماعي/البيداغوجيا النقدية. وتركز هذه الفلسفات الأربع بشكل أساسي على ما يجب أن يُدرَّس وكيفية تدريسه، أي انها تركز على البرنامج الدراسي الذي يتم تدريسه داخل الفصل الدراسي.
1. الفلسفة الجوهرية
تتمسك الفلسفة الجوهرية في الاعتقاد بوجوب تدريس مجموعة من المهارات الأساسية لجميع الطلاب. ويميل الجوهريون إلى إعطاء الأولوية للتخصصات الأكاديمية التقليدية التي تطور المهارات والأهداف المحددة في مختلف مجالات المحتوى الدراسي وتطوير ثقافة مشتركة. وعمومًا، تُنادي هذه الفلسفة بالعودة الى النهج القليدي في تعليم المعايير الفكرية والأخلاقية. ومهمة المدرسة هنا هي أعداد جميع الطلاب ليكونوا أعضاء منتجين في المجتمع. تركز مناهج الفسلفية الجوهرية على القراءة والكتابة والحساب واستكشاف الحقائق الموضوعية عن العالم الخارجي. ويرى اصحاب هذه المدرسة ان تكون المدارس مواقع للجدية والصرامة حيث يتعلم الطلاب العمل الجاد واحترام السلطة. ونظراً لهذا الموقف، تميل الفلسفة الجوهرية إلى الاشتراك مع مبادئ الفسلفة الواقعية، اذ تميل الفصول الدراسية الجوهرية أن تكون مركزة حول المعلم في تقديم التعليم عن طريق المحاضرة والعروض التوضيحية. ومن هؤلاء المفكرين الرئيسيين في هذه المدرسة: الاستاذ William Bagley, E.D. Hirsh Jr
2. الفلسفة التاريخية (الازلية)
تدعو الفلسفة التاريخية إلى البحث عن الحقائق العالمية التي تمتد عبر الفترات الزمنية التاريخية. هذه الحقائق، يُجادل التاريخيون، بان لهذه الحقائق أهمية أبدية في مساعدة البشر على حل المشاكل بغض النظر عن الزمان والمكان. بينما تشبه هذه الفلسفة، الفسلفة الجوهرية من النظرة الاولى، الا ان الفلسفة التاريخية تركز على تطوير الفرد بدلاً من التركيز على المهارات. تدعم هذه الفلسفة مناهج الفنون الحرة التي تساعد في إنتاج أفراد بالتكامل مع المعرفة في مختلف الفنون والعلوم. ويجب على جميع الطلاب أخذ دروس في اللغة الإنجليزية، واللغات الأجنبية، والرياضيات، والعلوم الطبيعية، والفنون الجميلة، والفلسفة. وهي تفضل التعليم بالتركيز على المعلم؛ ومع ذلك، يستخدم التاريخيون الأنشطة التعليمية المركزة على الطالب مثل الحوار السقراطي، الذي يقدر ويشجع الطلاب على التفكير والتمييز وتطوير أفكارهم الخاصة حول الموضوعات. من المفكرين الرئيسيين في هذه المدرسة: Robert Hutchins, Mortimer Adler
3. الفلسفية التقدمية
تركز التقدمية على التعلم التجريبي مع التركيز على تطور الطفل ككل. يتعلم الطلاب عن طريق العمل والقيام بالأشياء بدلاً من تلقي المحاضرات من المعلمين. وعادةً ما يكون البرنامج الدراسي متكاملاً عبر المحتويات بدلاً من تقسيمه إلى تخصصات مختلفة. يتمحور موقف التقدمية حول التركيز على حل المشاكل الحقيقية من خلال تجارب حقيقية. تتميز فصول الدراسة التقدمية بالتركيز على الطالب، حيث يعمل الطلاب في مجموعات تعاونية للقيام بأنشطة مبنية على المشاريع، والرحلات، والمشاكل أو الخدمة التعليمية. في هذه الفصول الدراسة التقدمية، يحصل الطلاب على فرص لمتابعة اهتماماتهم ولديهم سلطة مشتركة في التخطيط واتخاذ القرارات مع المعلمين. من المفكرين الرئيسيين لهذه المدرسة : John Dewey, Maria Montessori
4. فلسفة إعادة بناء المجتمع الاجتماعي والبيداغوجيا النقدية
تأسست فلسفة إعادة بناء المجتمع الاجتماعي كرد فعل على فظائع الحرب العالمية الثانية والهولوكوست للتخفيف من الوحشية البشرية. وهي تتبنى الإصلاح الاجتماعي لتحفيز الطلاب لصنع عالم أفضل من خلال غرس القيم الديمقراطية. نشأت البيداغوجيا النقدية كتطبيق النظرية النقدية على التعليم. وبالنسبة للبيداغوجيين النقديين، التدريس والتعلم هما فعل سياسي بحد ذاته، ويقولون إن المعرفة واللغة ليستا محايدتين، ولا يمكن أن تتسما بالموضوعية. لذا، لا يمكن فصل القضايا المتعلقة بالعدالة الاجتماعية أو البيئية أو الاقتصادية عن المنهج الدراسي. وتهدف البيداغوجيا النقدية الى تحرير الفئات المهمشة أو المضطهدة من خلال تطويرها، وفقا ل(باولو فريري)، وتوفير الوعي النقدي للطلاب. وتقوم البيداغوجيا النقدية بتحويل الفصل الدراسي التقليدي، الذي يكون فيه المعلم اساس العملية التربوية الى منهج وفصل دراسي يتمحور حول الطالب ويُركز على المحتوى في النقد الاجتماعي والعمل السياسي.المفكرين الرئيسيين في هذه المدرسة الفكرية هما Paulo Freire, Bell Hooks
هذه بعض المدارس الفلسفية على مستوى الفسلفة الغربية. وبما ان الفسلفة اطار عام لتحرير العقل فالمكان او الزمان لا يؤثر في اي من هذه الفسلفات يمكن لنا ان نختار. واعتقد اننا بما نملك من معتقدات كريمة في النصوص القرآنية الصريحة والاحاديث النبوية الصحيحة، يمكن ان نؤطر للقيم والمفاهيم المذكورة في الفسلفات التي تطرقنا اليها عاليه. ولكن ما نحتاج اليه هو الرؤية التمثيلية (representativeness) لاستنباط منهج فسلفي يقوم على تراثنا الذي يشمل عناصر الهوية والوحدة الوطنية وهي:
- الدين الاسلامي
- والديانات السماوية الاخرى
- والثقافة العربية
- والواقع الجغرافي والتاريخي الافريقي (بمستواه المكاني والثقافي)
هذه كلها عناصر تجتمع لتشكل هوية الانسان السوداني وتعده للقرن الواحد والعشرين. وغياب اي عنصر (un-representativeness) من عناصر الوحدة الوطنية هذه سيخل تماماً بتشكيل التوازن النفسي والعضوي لانسان السودان، وربما سيجرنا مرة أخري للصراع بين المركز والهامش وسياسة الاستقطاب والاستبعاد والاستعباد التي تسببت في الحرب الجارية الآن. وفي اعتقادي أن الشعارات التي طرحتها ثورة ديسمبر 2018 هي مفاهيم فلسفية وعناصر للوحدة الوطنية، حيث تبنت الثورة شعارات (الحرية والسلام والعدالة والديموقراطية والمدنية) كأسس ينبغي تضمينها في أي منهج تعليمي مستقبلي في السودان لخلق انسان متحضر وديموقراطي وشمولي(inclusive)في تفكيره وسلوكه في المجتمع الانساني الذي يعيش فيه. وينبغي ان تقوم الفلسفة التربوية في سودان بعد الثورة على مفهوم المواطنة كمفهوم اساسي ومفهوم الدولة المدنية كوحدة سياسية وجغرافية جامعة تديرها مؤسسات ويتساوى فيها الناس في الواجبات والحقوق واحترام امام القانون، يطبق على الكبير والصغير، الوزير والخفير، الغني والفقير والطالب والمدرس معاً.
• فلسفة التعليم
هو مصطلح يشير إلى مجموعة من المبادئ والقيم التي تحكم وتوجه العملية التعليمية. تعتبر الفسلفة جوهرية لفهم طبيعة التعليم وأهدافه وأساليبه، وتوجه القرارات والسياسات التعليمية. تتضمن فسلفة التعليم العديد من العناصر الرئيسية، منها:
1. رؤية التعليم: تحدد الرؤية العامة لماذا يُعتبر التعليم أساسياً وضرورياً، وما هي الغايات الأساسية للتعليم. تشمل هذه الرؤية توجيهات حول دور التعليم في تنمية الفرد وتحقيق النجاح الشخصي والمجتمعي. 2. المبادئ التوجيهية: تحدد المبادئ الأساسية التي تستند إليها عملية التعليم، مثل توجيهات حول المساواة والعدالة والتنوع واحترام الفرد وتنمية مهاراته. 3. أساليب التعليم: تحدد الأساليب والممارسات التعليمية التي تستخدم لتحقيق أهداف التعليم، مثل الأساليب النشطة والتعلم المبني على المشاريع والتعلم التعاوني. 4. تقييم التعليم: توضح كيفية تقييم تقدم الطلاب وتحقيق الأهداف التعليمية، وتحدد الأدوات والمعايير التي يتم استخدامها في هذا السياق. 5 . توجيهات التطوير المستمر: تشجع على التطوير المستمر للتعليم والسعي لتحسين الجودة والفعالية من خلال مراجعة وتحديث السياسات والممارسات التعليمية. فسلفة التعليم قد تختلف من مكان لآخر ومن نظام تعليمي إلى آخر، وتتأثر بالثقافة والقيم والتحديات الاجتماعية والاقتصادية في كل مجتمع. وتعتبر فسلفة التعليم مرشداً هاماً يساعد على توجيه وتحسين العملية التعليمية وتحقيق الأهداف التعليمية المرجوة.
• الاهداف التربوية:
وهي من مشاكل التعليم الاساسية وتعني الاهداف التربوية البرامج التي تنوي االوزارة المعنية تقديمها للجمهور. والأهداف التربوية هي الغايات والتطلعات التي يسعى إليها النظام التعليمي في تحقيقها، وتشمل مجموعة من الأهداف الرئيسية التي تركز على تطوير الفرد والمجتمع. تهدف الأهداف التربوية إلى تحقيق التنمية الشاملة للفرد في مختلف جوانب حياته، وتأهيله لمواجهة التحديات والمساهمة في تطور المجتمع. من بين الأهداف التربوية الرئيسية:
1. تنمية المهارات والمعرفة: تهدف التعليم إلى تنمية مهارات الفرد وبناء قاعدة معرفية تساعده على فهم العالم من حوله وتطوير قدراته الفكرية والمعرفية. 2. تحقيق التفوق الأكاديمي: يسعى النظام التعليمي إلى تحفيز الطلاب على تحقيق التفوق الأكاديمي في مجالات متعددة، من خلال توفير بيئة تعليمية تحفز على الإبداع والتطوير. 3. تنمية القيم والسلوكيات الإيجابية: يهدف التعليم إلى تنمية قيم إيجابية مثل النزاهة والمسؤولية والتعاون واحترام الآخرين، وتعزيز السلوكيات الإيجابية والتعاونية في المجتمع. 4. تطوير المهارات الحياتية: يشمل التعليم تطوير مجموعة من المهارات الحياتية مثل التفكير النقدي وحل المشكلات واتخاذ القرارات والتواصل الفعّال، التي تمكن الفرد من التأقلم مع تحديات الحياة. 5. تحقيق المساواة والعدالة: يسعى التعليم إلى توفير فرص تعليمية متساوية للجميع، بغض النظر عن الجنس أو العرق أو الطبقة الاجتماعية، وتعزيز العدالة والمساواة في الوصول إلى التعليم. 6. تنمية الوعي الثقافي والاجتماعي: يهدف التعليم إلى تنمية الوعي بالتراث الثقافي والاجتماعي للمجتمع وتعزيز الانتماء والتفاعل الإيجابي مع المجتمع والعالم بشكل عام. هذه بعض الأهداف التربوية الرئيسية التي يسعى النظام التعليمي إلى تحقيقها لتطوير الفرد والمجتمع وتحقيق التنمية الشاملة.
وهناك المشاكل الإدارية والتمويلية ومشاكل المعلمين وتدريبهم والإشراف التربوي والتقويم التربوي، وقد وجدت بعض الحلول لمعظم هذه المشاكل وسهلت صعوباتها. ولكن نواجه في السودان مشكلتين رئيسيتين لا تتعلقان بقضايا المدرسة والمعلم والمنهج والاشراف التربوي والتقويم التربوي مباشرة؛ لكنهما تعتبران ركائز نظرية يقوم عليها البناء التربوي برمته. وهاتان المشكلتان لم تجدا نصيباً من الاهتمام على الإطلاق وهما: دراسة (اقتصاديات التعليم) كعلم منفرد و(التخطيط التربوي) كمجال حيوي لا يمكن السير بدونهما نحو تعليم ممنهج ومنظم وسنخصص لهما الحلقة القادمة ان شاء الله حيث سنتناول مفهوم اقتصاديات التعليم والتخطيط التربوي. (يتبع)

aahmedgumaa@yahoo.com

 

آراء