أدونيس عن الطيب صالح: “مكان لهجرة داخل المكان”* .. مختارات : عبد المنعم عجب الفَيا

 


 

 

- مختارات
أقروا شخص الطيّب صالح(1). أظن أن الفرق بين شخصه وأبجديته ليس فرق هوية، بل فرق في درجات الضوء. أبنوس يقود العين إلى جهة الليل والسر. وهذا الخفَر المغمور بنوع من الكآبة الهادئة، دعوة إلى الدخول في طبقات محيطه القصوى.
في السر، وجد الطيّب صالح غذاءه، ووجد إطاراً لكتابته. نحن، إذن، لا نقرأه لكي نعرف سير الحدث، بل لكي نعرف ما وراءه. لذلك لا نقرأه بالوقت أو بالمكان، وإنما نقرأ الوقت به، ونقرأ به المكان.
استطيع أن أرى كتابته نفسها في هيئة شخص مسكون بصوفية السر، والتأمل والنشوة. دائمًا يبدو، لحظة يتحدث معك، كأنه يتحدث مع آخر، سواك. دائماً يبدو كأنه في مكان آخر، لحظة يجمع بينكما مكان واحد.
هذا الشخص الذي هو كتابته، يبدو دائماً كأنه اثنان: واحد قبالتك، معك. وواحد بعيد مسافر. واحد يذهب، وواحد يجيء. اثنان، كل منهما يقول للآخر: لست حاضراً إلا مع نفسي - لكن عبرك.
كنتُ كل يوم، في مرحلة لقائي بالطيّب صالح، أوغلُ أكثر فأكثر في غور التاريخ، فيما آخذ الوقت وحضوره بين ذراعي. كان الحاضر آنذاك لهبًا يلتهم نفسه، ويخيّل أن الناس ينزلقون فيه كمثل حُزمِ من القش. وكان الوطن يتنفّس هواءً لم يكن إلا بخاراً من الكلام. وكان هذا البخار هو نفسه يلتهم بعضه بعضاً.
كنتُ أشعر أنني لم أكن موجوداً إلا حين أستسلم للورقة البيضاء، كمثل زفير شبه مخنوق. وكانت معظم الكتابات آنذاك أشبه بصراخ يملأ الشوارع، تمجيداً للأسماء وسحقاً للأشياء. وكانت لهذه الكتابات كيمياؤها الخاصة التي لا يطمح أصحابها إلى أقل من تحويل الرؤوس العدوة إلى منافض لرماد تبغهم.
كان القول يفسد حتى أصبح الصمم رغبة، مثلما قال المتنبي، أبو الطيّب، منذ أكثر من ألف سنة، وكأنه يخاطب صديقه الطيّب الآخر.
ولا تبالِ بشعرٍ بعد شاعره / قد أفْسَدَ القولَ حتى أُحمِدَ الصممُ
في أوج هذا الهبوط سطع ضوءُه الأبنوسي - سطع في بيروت، تلك الساحة السمحة إلى حد أنها كانت وحدها تتيح لأصحاب ذلك الصراخ أن يكسّروا قناديل المعنى. وقلت: هو ذا، يمكن الكلام والسفر بعيداً مع هذا الضوء الأبنوسي.
في شعرية الكتابة، التقينا. وكان لقاؤنا إذن حراً كمثل كتابته التي ولدت حرة، خارج المعسكرات - أحزاباً، وأيديولوجيات، وسياسات - تلك التي كانت تولّد الرغبة في الصمم. كانت كتابات الطيّب صالح تتلألأ مع وحدتها الساطعة على مأدبة الجمال والسر.
وفي حين كانت الكتابات المهيمنة خدمة للأسماء، كلا، خدمة لألفاظ كانت تصطف، وتتقافز حولنا، وتحاصرنا، كأنها أسلحة من كل نوع، أو جيش يسهر، ويحرس، ويطارد في كتائب لا تعرف غير التمترس والتخندق والترصد وشن الحملات، كانت كتابات الطيّب صالح تسير هادئة وديعة في الطريق الضيقة نحو تحرير الطاقات الأكثر عمقاً في الحياة والإنسان، في الفكر واللغة.
لا حزب وراءه، أو أمامه، أو حوله. لا يتكئ على وسادة النواح الوطني. لا يسمح لنفسه أن يستلقي على سرير تنسجه دعوى باسم التقدم. لذلك لم يكن يكتب لكي يتواصل مع جمهور جاهز يستعرض في الساحات العامة، بل كان يكتب لكي يزداد معرفة لنفسه، ولكي يزداد تواصلاً مع فضائها الإنساني. كانت الكتابات المهيمنة تؤسس للسلطة، وكانت كتابته تؤسس للهوية. كان ممن لا يجرفهم الحدث، بل ممن يتأسس بهم التاريخ. لهذا لم تكن له سطوة غير سطوة النور، سطوة أن يستبصر، ويستشف، ويكتشف، ويحبّ.
ولا يذهب الظن بأحد أن الطيّب صالح سلك هذا المسلك، عداء للتقدم. على العكس، كان باسم التقدم نفسه، يرفض الانسياق في ما هو باطل أساساً: أعني تحويل الأبجدية إلى زخارف للبيوت الإيديولوجية، أو إلى أدوات لسلطانها، أو إلى أصوات تهتف لها. كان يرفض ذلك مؤكداً أن الأبجدية ابتكار لمزيد من الغوص في العالم، ومزيد من جلائه، وأنها لذلك، حين يكون الأمر أمر إبداع، يجب أن تكون استقصاء لمجهولات العالم. فمن يعمل على تحويل الكتابة عن مدارها هذا، ليس إلا كمن يحاول أن يخرج كوكباً من مداره.
المكان، بالنسبة إلى الطيّب صالح، وكما يخيل إليّ، أصلٌ مسكونٌ بهاجس الترحّل، كالجذر المسكون بالفرع. إنه انشقاق على نفسه، انشقاق يحمله الإنسان في ذاته: بين كينونته وصيرورته. كأن الترحل أفق الأصل. كأنه، لذلك، ماهيته. هناك يكمن سر الحياة، بوصفها فرحًا وعبئاً في آنٍ.
المكان - الأصل - كمثل الكلمة التي هي هجرة دائمة بين الاسم والدلالة. يترحل الكاتب من المكان وفيه، كما يترحل المعنى من الكلمة وفيها. وكما أنه ليس هناك كلمة نهائية يقيم فيها المعنى، فليس هناك مكان نهائي يقيم فيه الإنسان. المكان هو لذلك، كمثل المعنى، لكي يبتكر باستمرار كما يبتكر الحب. ومن هنا يبدو أن الانسان الخلاق يقيم في الترحل، بل يبدو أنه هجرة دائمة.
حين نلغي الترحل، نلغي غنى العالم - أعني أسراره ومجهولاته. يصبح العالم كأنه ملتصق بأعيننا، ولا نعود نراه. هكذا نرحل لكي نكتشف العالم - مقامَنا فيه، وإقامتنا. والكتابة مكان لهذا الترحل، لهذا الكشف المعرفي، إنها السفر الذي يكشف السر، فيما يبقيه طي الخفاء. إنها الجسد مترحلاً. طبيعة ثانية، أو كأنها الطبيعة وقد تحولت إلى أبجدية.
هكذا تجري كتابة الطيّب صالح في نهر اللغة والعالم، كمثل سفينة تعانق اللجة فيما تحتضن الضفاف، كأنها المكان مهاجراً داخل المكان. والأرض نفسها هي البيت. والصلاة في الشمال لا تقوم إلا إذا وجهت وجهها إلى الجنوب. والغرب ليس هداية لتيه الشرق، بل مناسبة لكي يحسن الشرق التعرف إلى ذاته، ولكي يحسن العودة إليها، موغلاً في اتجاه الأقاصي.
أحييك أيها الطيّب، يا صديقي، وأحتفي بك - بيتاً للضوء: سقفه السماء، وتخومه الكون.

هوامش:

*نشر بجريدة "الحياة" اللندنية 12 مارس 2009 (عنوان المقال الكامل: "مكان لهجرة داخل المكان - احتفــاءً بالأثر الطيّب للطيب صالح").
(1) كُتِبَ هذا النص بباريس سنة 1994، مشاركة في تكريم خاص أقيم للطيب صالح في باريس، ولم ينشر. لمناسبة رحيله الأخير، رأيت أن أنشره احتفاء بالأثر الطيّب الذي تركه الراحل الكبير الصديق، ووداعًا له. (أدونيس).

عبد المنعم عجب الفَيا
15 ديسمبر 2022

abusara21@gmail.com

 

آراء